قوة الجهل الكبرى

ما إن اضحت شبكة الانترنت ووسائط التواصل الاجتماعي هي البطل اليومي، في تلقي المعرفة والتواصل، حتى اتكأنا عليها كذريعة تقول بأن زمن القراءة.. قراءة المكتوب على الورق، قد ولى.اضافة اعلان
صارت هذه الذريعة، قوة كبرى، تندفع نحو تعزيز الكسل والجهل وتدوين زمن جديد من ازمنة العتمة التي تفيض علينا، وتحشرنا في مهاوي الردى.
في المقابل، لا أحد يذهب ابعد من أرنبة أنفه، ليحاسب ترويج الجهل ومسببيه من مسؤولين، وتشريعات وقوانين في بلداننا. لا احد يشير الى ان الخلل الذي لازمنا طيلة عصر الطباعة يكمن في تردي فهمنا للوعي والمعرفة، وان حصولنا على ادنى مراتب الشعوب القارئة/ العارفة، يسكن في كل بيت من بيوتنا.
ولعل أعداد المعنيين بالمعرفة في بلد كالاردن، تغني عن الاندفاع نحو اختلاق وسائط التواصل الاجتماعي وشبكة الانترنت، لتكون هي المتكأ الذي يمنحنا شهادة في الجهل والسكون والتربع على عرش الشعوب التي لا تقرأ.
فثلث المجتمع الاردني إن لم يكن اكثر، على مقاعد الدراسة، وثلثه تخرج في المدارس والجامعات، تخيلوا معي لو ان خطط وزارات التربية مثلا، تفرض على الطلبة نسقا تربويا تكون فيه القراءة عماد معرفتهم، وتوجههم نحوها، وتبني مكتبات زاخرة بالتنوع والمعارف، وتضع اساليب جذابة للطلبة، تدفعهم الى القراءة دون مواعظ وإرشادات، لرأينا الامر مختلفا، ولرأينا أن القراءة صارت جزءا من مكون المتعلمين في بلدنا، ولتغيرنا نحو الاحسن.
صحيح أن دراسات ضافية تشير اليوم الى ان وسائط التواصل وشبكة الانترنت، أضحت البطل الحقيقي في ترويج المعرفة، لكن دراسات مقابلة، تتحدث عن قيمة القراءة التقليدية لما هو مكتوب على الورق،  تفيد بان طزاجة الحياة تكمن في الورق.
وصحيح ايضا، أن الوسائط الجديدة للمعرفة، تهيمن بقوة على المشهد المعرفي الانساني، لتضحي هي الخزانة الكبرى للمعرفة، لكن ما يزال المواطن الفنلندي، يصرف تسع راتبه على اقتناء الكتب وقراءتها، وما تزال دول كاميركا وفرنسا، تضخ ملايين المطبوعات سنويا الى الاسواق، وتجد من يقتنيها، وهذا كله يدفع الى ان نرى مواطنا فنلنديا راقيا، يتمتع بانسانية عالية، بعيد عن التطرف والتعصب ومنتظم وعيه مع المبادئ الانسانية.
صحيح ان هناك شبه اعاقة لدى شعوب العالم، وانت تراهم متشبثين باعينهم أو بآذانهم بالهواتف النقالة او أجهزة الحواسيب المحمولة، لكن في المقابل، ثمة من يقرأون في الباص والمترو والطائرة والحدائق العامة كتبا ومنشورات مطبوعة ورقيا.
في كل الاحوال، لست ممن يميزون بين وسائط المعرفة، ولكني ممن يميزون بين شخص جاهل وآخر عارف، ولستم ببعيدين عن إدراك صفات من يعرف ومن لا يعرف. اننا نعاني يوميا من سلوك من لا يعرفون، وهم من يشكلون جزءا من وجداننا الحضاري المتدني للأسف.
لم تستطع أوروبا التي كانت غارقة في الجهل قبل قرون، أن تنهض من وحلها الا بعد أن ضاهت بغداد ودمشق اللتين كانتا تنعمان بالعلوم والمعرفة. اليوم؛ بغداد ودمشق تغرقان في المتفجرات والطائفية، واوروبا التي كانت موحلة، تستقبل اللاجئين العراقيين والسوريين، وتضع في ميزانياتها كيفية منحهم فرصة للقراءة، عن طريق بناء مكتبات خاصة بهؤلاء اللاجئين.
على الطرف المقابل، ينتج المحتل الاسرائيلي يوميا مطبوعات في مختلف الاصناف، تضاهي ما ينتجه العرب في أعوام، وتجد تلك المطبوعات من يستقبلها من القراء المحتلين.
نعم، نحن مختلفون كثيرا عن محيطنا، مختلفون بخلق ذرائع تمتدح جهلنا، ومختلفون برضانا العارم عما نحن فيه من تدن معرفي، ومختلفون لاننا نعرف المصيبة ولكننا لا نقترب من حلها.