"كانوا يا حبيبي".. وقدَم نواف كُسرت

بينما كان أهالي قرية النبي صالح ينتظرون بدء الاحتفال بخروج ابنتهم عهد التميمي، من الأسر الإسرائيلي، هذا الأسبوع، انفتحت بوابة ذكريات أهالي القرية، على ماضيها النضالي، ونحو 23 شهيدا قدمتهم القرية، وقرابة 20 أسيرا حاليين، مع أن أهالي القرية لا يزيدون على نحو 600 نسمة، وهم من عائلة واحدة، التميمي.اضافة اعلان
حديث كهذا تليق به أجواء استثنائية؛ هواء القرية الجميل، غرب شمال رام الله، وانطلاق موسيقى مرتفعة. يسأل طفل والده "ما هذه الموسيقى؟ أعرفها، ولا أتذكرها". احتار الأب أيخبره كل شيء، أم يقدم إجابة سريعة، وأخبره: هي موسقى أغنية فيروز، "كانوا يا حبيبي"، فابتسم "الولد" وقد تذكّر. وأضمر الأب في نفسه إخبار الابن البقية، عند انتهاء الاحتفال؛ أن يُسمِعه "طبعات" الموسيقى المختلفة، عبر الانترنت، وأنها موسيقى روسية لُحّنت العام 1933، وتُسمّى موسيقى "الحقل"، وأحياناً "يا حقلي"، وأيضاً (Polyushka Poly)، ولكن شعوبا عدّة، عزف موسيقيوها اللحن وغنوا معها أغنيات، خاصة في كل بلد. فاللحن والأغنية مخصصان أصلا للجيش الأحمر (السوفييتي) ولكن انتشرا كثيراً، وعلى سبيل المثال في مؤتمر لندن للشباب، العام 1945، اشترك في أدائها 6 آلاف شاب، بينما أجواء الحرب العالمية الثانية ماثلة. والأغنية تتحدث عن شباب يتركون بيوتهم بفخر واندفاع، لحراسة البلاد من الأعداء.
على وقع الموسيقى، وغروب الشمس، وبناء على سؤال الضيوف، كان أحد مقاتلي الثورة القدامى، يروي قصته، ومن ضمن ما رواه، قصّة قريبه أبو نواف، فيقول في إحدى المرات ترك مخيم اليرموك في دمشق، وكان آخر ما شاهده، نواف ابن قريبهم، يلعب. وعندما وصل إلى لبنان، كان الإسرائيليون يشنون غارة، وبدأت رسائل اللاسلكي تنقل معلومات وتعليمات، ليسمع أنّ "نواف التميمي" أصيب في القصف، فجن جنونه، ما الذي جاء به؟ حاول الوصول للموقع المحدد، وسأل بعض من يتمركز هناك عن الإصابة، فقالوا مع ابتسامة، "كُسرت قدمه"، ولكنه سأل ما الذي جاء به من اليرموك؟ ليضحك الفدائيون، ويخبرونه أنّ أبو نوّاف، من كثرة اعتزازه بالمدفع المضاد للطائرات أو الـ"م ط"، كما كان يُعرف، أسماه نوّاف، على اسم ابنه، دلالة التصاقه بهذا السلاح الدفاعي، ولم يخيب من حوله ظنه فتبنوا الاسم، وما كُسر هو قاعدة المدفع.
عاد أبو نواف إلى القرية، ويخبرونك أنّه عبثاً أن تحاول الحديث معه في أي شيء عن الحاضر، وأن حديثه المفضل الدّوريات القتالية والنشاطات التي كان يمارسها، وتاريخ أشجار الزيتون القديمة وحقولها في القرية، وحدود البلدة محددةً بالأشجار.
مع تقدّم المهرجان، تبدو أضواء سيارات تتراكم، فالبلدة مغلقة ببوابات وحواجز وضعها الاحتلال، لإغلاقها إلا من مداخل محددة، ومحاطة بالمستوطنات، والآن تدل مصابيح السيارات التي بدأت تصطف باتجاهين، (لمن يخرج ويدخل القرية)، أنّ الاحتلال قد نصب حاجزا احتلاليا، ويقول المُضيف "نصبوا الحاجز.."، ويرد حفيده الصغير، بعفوية بالغة "كمان مرّة؟"، ويضحك الجميع.
يقام المهرجان في ساحة القرية التي تركها الأسلاف للمناسبات العامة، ويخبرونك أنّهم تركوا وقفا أيضاً يبنى فيه الآن مرافق عامة مثل مدرسة وحديقة، والساحة أمام قاعة تُقام فيها المناسبات شتاء، ويتذكر الضيوف أنهم قدّموا العزاء فيها في تشرين الثاني (نوفمبر) 2012، في الشهيد رشدي التميمي. ويبدو أنّ أحد الجالسين، وهو أسير محرر بعد أن قضى عشرين عاماً، لم يكن يتابع الحديث، فيبدأ بالحديث عن رشدي، ولكن حديثه عن العام 1973، وعمل رشدي في التدريب العسكري في الشتات، وعندما يخبرونه أنّ الحديث عن رشدي، الشرطي في الأمن الفلسطيني، الذي استشهد وهو يواجه جنود الاحتلال بالحجارة، يخبرك أنّ رشدي الشهيد الأول هو خال الشهيد الثاني.
والمقاتلون القدامى يستذكرون المعارك، تأتي سيرة دراستهم الجامعية في "الشام" وبيروت، وكيف كانوا يكدّون للحصول على مصاريفها، والفدائيين الذين كانوا يجمعون قليلاً من المال لمساعدتهم.
في المهرجان كان لافتا جيل جديد، يحمل المقاومة، وجيل من الفنانين الشباب، أيضاً يحملون علم الأغنية والموسيقى، منهم ناي برغوثي، ومحمد عساف، ونيفين صاوي، وفرقة سفراء فلسطين للدبكة، وكان حديث الشهداء مضمّخاً بالعبارة "ونحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا".