كان حلماً...

عرفت أنه قد رفع الراية البيضاء، أخيراً، عندما جاءني صوته على غير العادة؛ واهناً يائساً. كنت قد اتصلت به معزياً بنجله الذي اغتالت أعوامه العشرين قذيفة مدفع عمياء، أطلقها جاهل في زمن تصدّر الجهلةُ والقتلة وأمراء الحرب المتعطشين لإراقة الدماء، المشهد بامتياز.اضافة اعلان
عرفته في بداية حلم راوده، كما راود آلافا من أبناء بلده، ببناء وطن يعمّه الربيع والسلام بعد عقود طويلة من الخريف الجاثم فوق القلوب. لم يعرف ذاك الوطن المنكوب فصلاً غيره، وكأن الأرض قد نسيت أن تكمل دورانها، فتوقف الخريف عنده ولم يغادر.
تعلّم وعاش في الغرب، وتبوأ مرتبة مميزة في العلم، زينت أدبه الجم، ووطنيّته المتدفقة. قرر العودة إلى بلاده ليساهم في صنع ربيع وطنه، مؤمناً بأن الأوطان لا تبنى بالمشاعر الجيّاشة من وراء البحار، ولا بالمناظرات.
وتسلّم دفة القيادة في إحدى كبرى المستشفيات التي كانت متعثرة طوال عقود. وقام خلال فترة قياسية بانتشالها من مرحلة الخرسانة الصماء، والأجهزة التي ملّت البقاء حبيسة الصناديق، لتتحول إلى قلب ينبض بالحياة.
وتمحورت رؤيته في التطوير والتغيير حول بناء علاقات من التعاون الخلّاق مع أشقائه العرب. فجاء إلينا طالباً العون في نقل المعرفة إلى بلده. وبدأنا مشروعاً واعداً، قمنا برعايته سوياً كنبتةٍ ما إن أوشكت أن تطلق أزهارها الجميلة حتى داستها عجلات الجهل.
لقد أغفل خلال نشوة التفاؤل التي عاشها، من خلال مساهمته الجادة في إعادة إحياء ربيع بلاده، حقيقة أن عقودا من الاستبداد والظلم لا تُمحى آثارها بلمح البصر، وأن الدكتاتور الكبير ورّث مستعمراتٍ له عشعشت في عقول الكثيرين من تجّار الحروب، والجهلة وقصار النظر.
غاب عنه أن هذه المنطقة محكومة بالحرائق والدماء؛ إن لم يكن على أيدي أعدائها، فعلى أيدي من يدّعون أنهم أبناؤها؛ ولم يقدّر الطاقة الهائلة لهذه الشعوب على التدمير الذاتي، واغتيال الأحلام الجميلة.
لقد تعرض لحرب شعواء من كل المتضررين من وجود رجل نظيف مثله، وعلى قدر كبير من العلم والمعرفة، لأنه بحساباتهم بات يشكّل خطراً يهدد مكتسبات نالوها بغير وجه حق.
كان شكرهم الأول له رصاصتين في الصدر، حالت مشيئة الله دون أن توديا بحياته. كانتا بمثابة رسالة قاطعة: "اذهب، حيث لارجعة".
ثم تابعت دورة الجنون الجماعي دورانها بتسارع أكبر، حيث لا يعرف القاتل لم يقتل، ولا المقتول لماذا قُتل، والكل يدّعي أنه يبني وطناً. ولكن في غمرة انهماكهم في بناء هذا الوطن المزعوم، غاب عنهم أن الخرائب لا تصلح وطناً لغير البوم.
جاءتني كلماته الأخيرة محبَطة من محطته قبل الأخيرة إلى منفاه الأخير، ميمّما وجهه صوب الشمال، عسى أن يجد في صقيعه ما يطفئ به جحيم الجنوب المملوء بأبنائه قبل أعدائه.

*مدير عام مركز الحسين للسرطان