رغم ما بعث به المشهد الانتخابي الإسرائيلي الأخير، للوهلة الأولى، من مظاهر صادمة ومثيرة للهواجس المقلقة، وربما التطيّر أيضا؛ إلا أن هذا المشهد أنتج، في الوقت ذاته، أزمة تنطوي على فرصة لم تكن متاحة، وطرح تحديا ملائما أكثر من ذي قبل، ووفر هوامش أوسع من أي وقت مضى، لمواصلة الاشتباك السياسي بصورة أنجع، وتجريد خطاب اليمين الفاشي المتطرف من قدرته على المراوغة، إن لم نقل تجريمه وحشره في الزاوية الضيقة، ومن ثم تشديد الهجوم الدبلوماسي الشامل على آخر احتلال في العالم، بعد أن تبدأ دفاعاته الذاتية في التصدع، وتنهار مصداته الخارجية، الواحدة تلو الثانية.
لتعظيم النتائج الجانبية المفيدة، الناجمة عن فوز المتطرفين والعنصريين والمستوطنين و”الحريديم”، وكل الذين نكلوا بصورة إسرائيل وجدعوا أنفها الطويل في انتخابات الكنيست العشرين، ينبغي لمن استيقظوا من الصدمة بسرعة، الامتناع عن اللعب في ملعب بنيامين نتنياهو المفضل؛ أي ملعب القوة العسكرية المجردة، وعدم الانجرار وراء غواية المواقف الشعبوية، وإبداء الحذر إزاء تقديم فرصة سانحة مواتية للذئاب الإسرائيلية المرابطة على حافة الجرف السحيق، في انتظار فرصة للانقضاض المفاجئ، ودفع الوضع الفلسطيني الهش إلى هاوية لا قرار لها.
في الواقع، هناك ثلاثة ملاعب بديلة لملعب نتنياهو، أحسب أن على الفلسطينيين واجب إقامة مبارياتهم فيها. الأول؛ ملعب المقاومة الشعبية بكل أشكالها الممكنة، بما في ذلك الاحتجاجات والاعتصامات ومقاطعة البضائع الإسرائيلية وغيرها. والثاني؛ ماثل في تحسين شروط الصمود، ورفع سوية الأداء الداخلي والتمكين الذاتي، وتجويد البناء المؤسسي. أما الثالث؛ فهو ملعب الدبلوماسية، وفضاء الرأي العام، ومنابر الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان، فضلاً عن ميدان الملاحقات القضائية، ومن بينها المحكمة الجنائية الدولية.
إذا ما استعرنا مفردات المعلقين الرياضيين، فإنه يمكن القول إننا اليوم أمام كرة مرتدة، ركلها أحد المهاجمين المتهورين إلى ما وراء خطوط دفاع فريقه المتقدم، فسقطت أمام لاعب خصم كان يتهيأ لالتقاط هذه الفرصة النادرة، وتسديدها من دون عناء كثير في المرمى؛ أي على نحو ما أتت عليه نتائج انتخابات الكنيستة التي بدت كقذيفة كروية زائدة عن الحد المسموح به بين فريقين، حتى إن كانا غير متكافئين، فإذا بها تخرج من بين أقدام اللاعبين الماهرين، وتقع داخل خط الـ18.
بكلام آخر، فقد أدى خروج نتنياهو عن النص المعتمد، وكسره قواعد اللعبة المتعلقة بمسألة حل الدولتين، وتصريحاته العنصرية ضد كثافة تصويت العرب في صناديق الاقتراع، إلى تخليق ما يشبه تلك الكرة المرتدة، والتي تجلت في ردود فعل دولية مرشحة للتحول إلى إعصار لاحق، إذا ما أحسن الخط السياسي المركزي الفلسطيني اختيار أدواته المناسبة، وأحجم في الوقت ذاته عن إهدار الوقت والجهد وراء تحقيق مكاسب ثانوية عابرة؛ كوقف التنسيق بمندرجاته كافة، بلا تبصر لمضاعفاته، والسعي إلى إنهاء الانقسام المديد فوراً، وكل ما يشوش صورة الاعتدال في هذه المرحلة الدقيقة.
وعليه، يجب الاستثمار بكثافة في الموقف الأميركي المعلن حول إعادة النظر في سياسة البيت الأبيض المتبعة منذ زمن هنري كيسنجر، فيما يخص توفير الغطاء لإسرائيل داخل مجلس الأمن الدولي بصورة أوتوماتيكية، فضلاً عن التعويل على سياسة أوروبية تبدو في طور الانتقال من التلويح بالعقوبات إلى مرحلة فرض العزلة والمقاطعة، بل والاعتراف بالدولة الفلسطينية. وهاتان نتيجتان جانبيتان إيجابيتان أفرزتهما الانتخابات العامة الإسرائيلية، يجدر بالمتلهفين لرؤية مثل هذه التطورات، عدم التفريط بهما تحت أي مغريات مؤقتة.
ويزيد من أهمية هذه التطورات، التي أسهم التطرف العنصري والغرور الإسرائيلي في إنتاجها، أن الخيارات الضئيلة أساساً قد تضاءلت أكثر؛ وأن الرهانات الشحيحة على الواقع العربي قد تساقطت تباعاً؛ وأن الأوضاع الذاتية الصعبة قد ازدادت صعوبة؛ وأن أولويات المتشددين والأصوليين وذوي التوجهات الإيرانية لدينا، لا تتقاطع مع المشروع الوطني الاستقلالي الفلسطيني أصلا، الأمر الذي يجب أخذه بالحسبان سلفاً، في آونة حرجة قد يرجح فيها الاعتدال على التطرف أخيرا، وقد ينكسر المخرز المسموم في راحة الكف بغتة، وينقلب فيها منطق القوة إلى قوة المنطق، ليس بفعل جدوى الصمود الطويل وبلاغة الواقعية السياسية فقط، وإنما بفعل مؤثرات خارجية مواتية أيضاً.