كرسي الحلاّق

كان قراراً غبياً لم أحسب عواقبه جيّداً. كنتُ في غِنى عن كلّ هذه المتاعب التي تجعل رأسي منهكة كالكرة في الوحل، لم أحسب يوماً أني سأكلّم نفسي أثناء القيادة، وعلى طاولة المطعم، ودرج المول الكهربائي. هذا القرار الأرعن لو عاد بي الزمن لأسقطته من النافذة مثل الوسادة القذرة، ولاحقته وبصقتُ عليه ودسته كما الحشرة الشقراء. كانت لحظة جنون لا شكّ، وتهوّر غير محسوب لم أعتده، فكيف تجرأتُ أنْ أستبدل حلاّقاً بحلاّق آخر.. بقلب ميّت.اضافة اعلان
لو أنّي تزوّجت في السرّ بعد ثلاث زيجات، أو خرجتُ من السجن بعد تهمة مخلة بالآداب العامة، ولو أنّي كنتُ ذلك الواشي الذي دلّ الأميركيين إلى مخبأ صدّام حسين، أو كنتُ "بروتس" المعروف بخائن قيصر، بل لو كنتُ واحداً ممنّ صنّفهم أدولف هتلر تحت بند "الحقارة"، وهم أولئك الذين ساعدوه على احتلال أوطانهم، لكان ربّما بإمكاني المشي بالشارع، وتحريك الرقبة كما يفعل أيّ كائن فضولي، لكنّي وخشية أن يشاهدني الحلاّق، أمشي مثل صعيديّ مطارَد بالثأر!
اتخذتُ القرار المشؤوم قبل ثلاثة أشهر. تكاسلتُ عن الذهاب إلى الشارع التجاريّ المزدحم، حيث صالون الحلاّق "القديم"، واخترتُ حلاقاً قريباً.. لا فروقات كبيرة بينهما، لكنّي ملول، ولديّ أسباب أخرى دفعتني إلى هذه الورطة. قصصتُ شعري عند الحلاّق الجديد أول مرة، وفي الأسبوع الثاني واصلتُ التردّد عليه إلى حدّ أنّي سلّمته لحيتي. ومثل تارك الصلاة، جاءني الموت على هيئة مكالمات لحوحة من الحلاّق القديم، ورسائل فيها ود كثير، وسؤال إن حدث لي مكروه.. وتحت ضغط الودّ اعترفت!
كان موقفاً عصيباً شاهدتُ مثله في السينما العربيّة. كنتُ أردّ على أسئلته المعاتبة برأس منكّسة، وبعين واحدة فقط أحاول النظر إليه. يسألني هل قصّرتُ في حقك، أم قصّرتُ شعركَ أكثر مما تحبّ؟! (أنا أحفظ كلّ ما تحبّ وما تكره). قال في مشهد عاطفيٍّ يليقُ بممثل مصري في السبعينيات وهو يلبس قميصاً أحمر. أخبرته بأسباب مفتعلة، وأخرى غير منطقيّة، لكنه كان مضطراً للتصديق، بعدما أخبرته أني سآتي إليه مرّتين في الشهر.. بالعدل الذي أخشاه!
..ووقعتُ في ورطة رجلٍ متهور كان يظنّ أنّ لديه رصيداً كافياً من الذكاء، فقد أصبحتُ مضطراً لتجنّب الشارع التجاريّ المزدحم (الذي أحتاجه دائماً) حتى لا يُشاهدني الحلاّق القديم، ويتفحّص رأسي مثلّ جرّاح المخّ والأعصاب، ليبحث عن عيوب "قَصّة" زميله أو "ضرّته"، ويدعوني إلى محله لتصليح آثار "الخراب". والحلاّق الجديد لم يعد جديداً، فصرتُ ملزماً أن أفسّرَ له غيابي، بأسباب مفتعلة، وأخرى غير منطقيّة، لكنّه كان أيضاً مضطراً للتصديق، وهكذا صار الجلوس على الكرسيّ الجلديّ الأسود للحلاقة.. وطلب الغفران!
أنا نادمٌ مثل رجل مزواج ظنّ أنّ لديه رصيداً كافياً من الذكاء، وأريدُ أنْ أستوي فوق الإسفلت مثل خارج من السجن بعد تهمة مخلة بالآداب العامة، وأغطّي وجهي مثل واشٍ بصدّام حسين. فلو كنتُ قاتل قيصر، وخائن وطني، لما اضطررتُ لتجنّب المشي في الشارع التجاري المزدحم!