كيف تستقبل إسرائيل البابا؟

الأديان نادت بالحق أما محاولة المساواة بين الجلاد والضحية فهي الظلم بعينه

بعد بضعة أيام من الحفاوة الكبيرة، الرسمية والشعبية، التي لاقاها قداسة البابا بندكتس السادس عشر في الأردن، سينتقل يوم الاثنين القريب إلى إسرائيل، ليلقى مناخا معكوسا كليا، فمن خلف الابتسامات والكلمات الحميمة التي يتلفظ بها بعض المسؤولين الرسميين، فإن كل سير التحضيرات لهذه الزيارة، والأجواء التي رافقتها حتى الأيام الأخيرة، تكشف مدى الحقد العنصري وأجواء الاستعلاء والعربدة والعنجهية.

اضافة اعلان

بداية فإن إسرائيل وكعادتها، أرادت استثمار هذه الزيارة لسياستها، إذ أرادت أن تسميها "زيارة البابا إلى إسرائيل"، إلا أن الرد جاء من الفاتيكان بالإعلان عن أن هذه الزيارة هي "زيارة البابا إلى الأراضي المقدسة"، ورغم ذلك فقد حاولت إسرائيل فرض برنامج يطبق رغبتها، بأن طلبت أن يقيم البابا القداس المركزي في ساحة ميناء الشحن لمدينة حيفا، الشهيرة بمهرجانات "الجاز" و"البيرة" (الجعة)، في منطقة تصب فيها كل الموبقات الاجتماعية والجنائية.

وهذا كي لا يصل البابا إلى أولى المدن المقدسة في المسيحية الناصرة، وهي اليوم أكبر مدن فلسطينيي 48، فدخول البابا إلى الناصرة سيضطر حكومة "دولة اليهود" لرصد ميزانيات تطوير محجوبة أصلا عن هذه المدينة، التي أسوة بباقي المدن والقرى العربية تواجه سياسة تمييز عنصري.

وحسم الفاتيكان هنا أيضا الأمر كما يجب، معلنا أن القداس سيقام في الناصرة، التي ستستقبل يوم الخميس المقبل عشرات آلاف المصلين والمشاركين في هذا الحدث المهم.

وبطبيعة الحال فإن هذا لا يتوقف عند هذا الحد، فالأجهزة الإسرائيلية باتت أمينة أكثر من أي دولة أخرى على أمن الحبر الأعظم، ولهذا فإن قائمة ممنوعات الحركة والتنقل في الناصرة لا آخر لها، خوفا منا نحن "شعب الإرهابيين"، بمن فينا من سيولد حتى يوم الزيارة وبعدها، فلقداسة البابا حرية حركة مطلقة في مكان واحد فقط، في "متحف المحرقة اليهودية" في القدس المحتلة.

والتدخلات الإسرائيلية الهستيرية لم تتوقف عند هذا الحد، بل امتدت إلى بيت لحم ومخيم اللاجئين "عايدة" المجاور للمدينة، فقد سعت إسرائيل كي لا يصل إلى هناك وفشلت.

لا نعرف إلى أي مدى يجرى اطلاع قداسته على تصريحات الإسرائيليين، ومن بينهم رجال دين يهود ضد البابا والفاتيكان والمسيحية كلها، وهي التصريحات التي تتزايد مع اقتراب موعد الزيارة.

فمثلا حاخام الكنيس اليهودي الجاثم عند حائط البراق في القدس المحتلة، رفض بداية أية إجراءات خاصة لدخول البابا إلى المكان: "مثله مثل الآخرين، وعليه أولا أن ينزع الصليب ويدخل"، وقيل لاحقا أن السلطات الإسرائيلية أسكتته، ولكنه عبر عن أجواء، وكان من الأفضل للفاتيكان أن يعيد النظر مبدئيا في زيارة هذا المكان، الذي هو أبرز رموز الاحتلال في القدس المحتلة.

في أحد الأيام الأخيرة، صدرت بعض الصحف تحمل عنوانين "قلق"، نظرا لطلب الفاتيكان نزع العلم الإسرائيلي عن السيارة التي ستقله إلى الحرم القدسي الشريف، حيث سيزور قبة الصخرة المشرفة، والتحريض في حيثيات الخبر كان واضحا وبارزا.

ثم يرتقي مستوى التحريض ليصل إلى الكنيست، فهناك من كشف الأجواء التي تحاول إسرائيل التستر عليها، فعضو الكنيست الإرهابي ميخائيل بن آري، القيادي في حركة "كاخ" الإرهابية المحظورة في الولايات المتحدة، طلب عدم استقبال البابا نظرا "للحساب الدموي بين اليهودية والمسيحية"، ويقول: "إن هذا البابا يواصل اتهام الشعب اليهودي بقتل يشو"، و"يشو" هو اللقب الذي يطلقه اليهود والمؤسسة الإسرائيلية الدينية والسياسية رسميا، على السيد المسيح، وهو اختصار لثلاثة كلمات تشكل لعنة، ترجمتها: "ليمحى اسمه وذكره".

وهذا النائب أيضا تم إسكاته، رغم انه ليس ظاهرة شاذة في إسرائيل، وفي اليوم التالي انطلق أتباعه مطالبين بالتظاهر في شوارع القدس احتجاجا على زيارة البابا، لعرقلة سيرها.

ولم ينجح وزير الأديان من كتلة "شاس" الدينية الأصولية يعقوب مرغي، أن يبقى بعيدا عن هذه "الزفة" الإسرائيلية الساخنة، ليطلق تعليماته لقداسة البابا، بما عليه قوله في "متحف المحرقة"، وأن عليه رفض أي نفي للمحرقة، وهذا بعد أن سبقه آخرون، محذرين من أن يمنح الفاتيكان رسميا صفة "قديس" على البابا بيوس، الذي كان في منصبه خلال الحرب العالمية الثانية، وكل هذا غيض من فيض، لأجواء عنصرية رسمية.

إن الفلسطينيين في وطنهم ينظرون لهذه الزيارة، كزيارة رجل دين يتولى أعلى منصب كهنوتي في الكنيسة الكاثوليكية، التي يتبعها مئات ملايين البشر، إلى وطن ينزف بدم شعبه، فالأديان نادت بالحق، وإن اختار رجل الدين أن ينطق، فعليه أن ينطق بالحق، أما محاولة المساواة بين الجلاد والضحية، فهو الظلم بعينه.

[email protected]