أفكار ومواقف

كيف يعذب الساسة اللغة؟

علاء الدين أبو زينة

عندما ينظر المرء في أدبيات السياسة والتاريخ، سيندهش من طريقة منظري الإمبراطوريات والإعلاميين المتواطئين في العبث باللغة وتزوير الدلالات.

في قرن الاستعمار، ابتدعوا مفهومات “عبء الرجل الأبيض” و”التنوير” لوصف الغزو العسكري الأوروبي الوحشي للشعوب الفقيرة.

وصور مؤلفو الخطاب “الرجل الأبيض” نبيًا معذّبًا يحمل صليبه ويغامر في العالم المجهول ليخرج غير البيض من الضلال والهمجية إلى المعرفة والنور.

ولم تتوقف كل أنواع الحيل اللغوية لتلطيف أسوأ التوصيفات ورش الموتِ بالسكَّر. كان الغزو “فتوحات”، أو “حروبًا مقدّسة”، أو مهمة أخلاقية مثل “عملية حرية العراق”، الاسم الرمزي الأميركي لاحتلال العراق، أو حملة لـ”تحالف الراغبين” لوصف 40 حكومة شاركت في هذا الغزو.

وكان تدمير العراق وبنيته التحتية المدنية والعسكرية وتأزيمه منذ ذلك الحين وحتى الآن جزءًا مما وصف بأنه “الحرب على الإرهاب” بعد 11 أيلول (سبتمبر).

“الحرب على الإرهاب”، في التطبيق، هي حرب تستخدم كل ما ينتمي إلى الإرهاب حقًا، ضد شعوب كاملة اعتُبرت عمليًا “إرهابية” كلها.

فيما بيعَ على أنه معاقبة طالبان في أفغانستان، أو صدام حسين في العراق، على صلاتهم الحقيقية أو المختلقة بـ”القاعدة”، استُهدف كل عراقي وكل أفغاني شخصيًا بالتصفية أو الإخضاع أو تدمير العيش.

وقد مات الناس وتشردوا بالملايين وما تزال بلدانهم تناضل للخروج من الركام، وهي أكثر عوزًا إلى الأمن والحرية من أي وقت.

وإذا أفلتنا من وسم “الحرب على الإرهاب” الذي يقصفنا به الإعلام والساسة ليل نهار، فإن القصف والاحتلال والتعذيب التي مارستها دول الغرب فيها تجعلها في الحقيقة إرهابَ دولٍ منهجيًا ضد أمن الشعوب وحرياتها وحقوقها الإنسانية.

وثمة “التدخلات الإنسانية”، التي تصف “استخدام دولة ما القوة العسكرية ضد دولة أخرى بهدف إنهاء انتهاكات حقوق الإنسان في تلك الدولة المستهدفة”.

ثمة “التدخل الإنساني” لنصرة ثورة الشعب في ليبيا، الذي فتح أبواب جهنم ولم يغلقها منذ أكثر من عقدين. والتدخلات المتعددة في سورية بدعوى إنقاذ السوريين من الاستبداد -وإنما بتدمير بلدهم وتاريخهم وحيواتهم ومستقبل أولادهم، ومنحهم “الحرية” التي نشاهدها الآن.

وهناك “تغيير النظام”، الذي يُدرج تارة في “مكافحة الإرهاب”، و”الدمقرطة” و”التحرير”. وإذا لم بالقصف والتدمير كما حدث مع أفغانستان والعراق واليمن وسورية، فبـ”العقوبات” المقعِدة والتجويع، كما في حالات إيران وروسيا– وحتى الصين.

والعنوان هو تجويع الأنظمة لإجبار الحاكم الركوع أو الرحيل. ولكن، أي نخبة حاكمة هي التي تجوع حقًا ولا تجد الخبز ولا وقود التدفئة؟ إنها الشعوب هي التي يتم تجويعها وإفقارها وتدمير بناها وخدماتها، بافتراض أن الجوع سيجعلها ساخطة حد الثورة على أنظمتها.

وفي الحقيقة، لم يسقط أي نظام في الدول المستهدفة بالعقوبات، وإنما تفاقمت الاحتكاكات والقمع، وعانى الناس الذين يُعاقبون لأنهم لم يثوروا، والذين إذا ثاروا أُفلتت عليهم شياطين البطش.

نادرًا ما يتم التفكير في “التدخلات الإنسانية” بعيدًا عن النزعة العسكرية، مثلاً بتقديم العون للفقراء ودعم الصحة والتعليم وتخفيف المعاناة وتحسين الحياة.

ودائمًا تعني “التدخلات الإنسانية” استهداف الإنسانية نفسها بالتجريد من صفتها. وبالانتقائية المعروفة للتأويل وليّ ذراع اللغة، تعمل نفس القوى الإنسانية كل شيء للتحالف مع، ودعم، أكثر الأنظمة استبداداً وعدوانية ضد كل رغبات الشعوب ومصالحها.

في “الحرب على الإرهاب”، اخترعوا “تقنيات الاستجواب المعززة”، الاسم الملطف “للتعذيب المنهجي للمعتقلين الذي مارسته وكالة الاستخبارات المركزية وبقية الوكالات الأميركية، في أماكن بعيدة حول العالم، مثل باغرام، وغوانتانامو، وأبو غريب، وبوخارست، بتفويض من إدارة قائد حملة “التحرير والدمقرطة”، جورج بوش الابن. ويكفي وصف أساليب “الاستجواب المعزز” هذه لتجميد الأطراف.

وثمة “الدفاع عن النفس”، الذي يصفون به عدوانية الكيان الصهيوني الوحشي في فلسطين. ويُطلق الوصف، بلا خجل، عن تصرفات الكيان في المناطق التي يعرفها الغرب نفسه بأنها “مناطق محتلة”، مما يعطي الاحتلال غير المشروع قانونًا الحق في أن يدافع عن كونه احتلالًا.

أما الفلسطينيين فليس أي شيء يفعلونه دفاعًا. إنه كله شيء من اثنين: “إرهاب” أو”عنف”.

و”الأضرار الجانبية”؟ عبرت عنها مادلين أولبرايت ببلاغة حين سئلت في مقابلة: “سمعنا أن نحو نصف مليون طفل ماتوا (في العراق)، وهذا عدد أطفال أكثر من الذين ماتوا في هيروشيما، هل الثمن يستحق؟” لتجيب أولبرايت: “أعتقد أن ذلك خيار صعب جدًا، ولكن نعتقد أن الثمن مستحق.”

ودائمًا تستحق الأهداف “الإنسانية” التي يفترض أن تخدمها سياسات الغرب العدوانية كل الكلف، من قتل وتهجير وتنغيص عيش عشرات الملايين من البشر، التضحية بهذه “الأضرار الجانبية”.

هكذا يُعذب كُتُّاب الإمبراطورية اللغة ويكسرون ذراعيها، ويرشون الموت –حرفيًا- بالسكَّر.

المقال السابق للكاتب

نظام قائم على “القواعد”..!

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock