كيف يعيد التاريخ نفسه؟

من ليبيا وحتى اليمن، يبدو الترهيب من البديل الأصولي الإسلامي ممثلاً بـ"القاعدة" وأخواتها، جسر عبور الديكتاتور إلى بر "البقاء" فوق أشلاء المئات، التي ستغدو قريباً للأسف آلافاً، من مواطنيه. هنا تسقط خرافة التمايز بين "ممانع" و"معتدل"، فجميع الديكتاتوريات تصرخ اليوم في وجه شعوبها المطالبة بالحرية أن استمرارها عقوداً لم يكن أبداً برضى من ظنوا أنهم "مواطنون"، وإنما هو استمرار بفضل الغرب الذي قبل بهذه الديكتاتوريات ورعاها حامية لحدوده ومصالحه، مع تمايز غير مضر أبداً في الأهواء والنزوات، يمنح كل ديكتاتور هوية شكلية لا تعدو أن تكون علامة فارقة عمن سواه. اضافة اعلان
لكن إذا كان أقل أعمار الديكتاتوريات العربية الساقطة والآيلة للسقوط اليوم يزيد على ثلاثة عقود، فتُرى من يكون المسؤول عن نشأة التطرف والإرهاب باسم الإسلام وغيره؟ ومن يكون المسؤول عن تجذرهما واشتداد عودهما واكتسابهما هذا القدر من الشعبية والزخم؟ حتماً لم يخرج كل التطرف والإرهاب في العالم العربي إلا من رحم الديكتاتورية التي دمرت السياسة والاقتصاد والثقافة والاجتماع، ثم تمادت هذه الديكتاتورية بسياسة تقوم على الابتزاز بجعل منتجها من الإرهاب عابراً للحدود إن تأخر الغرب عن مساندتها صمتاً عن فظائعها، أو حتى دعماً مالياً يعزز الفساد الذي بات أساس الحكم من دون سواه. ألم يكن أول تصريح للعقيد معمر القذافي مع اندلاع الثورة الليبية تهديد الغرب بفتح حدوده للهجرة غير الشرعية إلى السواحل الأوروبية؟ وتُرى كم أثرى الرئيس علي عبدالله صالح من الأموال الأميركية التي كانت تذهب إليه باسم محاربة "القاعدة" والإرهاب؟
اليوم، لم يعد بمقدور الغرب أن يمارس هذه المقايضة على حساب الشعوب العربية. فالديكتاتوريات الفاشلة في زمن إرهاب مواطنيها بقبضة الأمن الفولاذية، باتت عاجزة تماماً. لكن هذا الغرب -وبدلاً من قناعته المدمرة التي لا تكاد تقوم على أساس، بأنه في الطريق إلى مواجهة أسوأ كوابيسه في مرحلة ما بعد الديكتاتورية العربية- يستطيع الاستفادة من تجربته هو ذاته مع ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.
إذ رغم الموت والدمار اللذين جلبهما هتلر على ألمانيا، بقي الألمان بشكل عام بعد انتهاء الحرب على تمسكهم بالعقيدة النازية، بل وربما زاد من ذلك أن باتت دول غربية تحتل بلادهم وتتحكم بها. لكن ذلك تبدل بشكل شبه كامل مع قرار الحلفاء، ولاسيما الولايات المتحدة، تنفيذ ما يعد أكبر وأهم جسر جوي إنساني في التاريخ (من 26 حزيران (يونيو) 1948 وحتى 12 أيار (مايو) 1949)، لإنقاذ مليوني مواطن ألماني في برلين الغربية من المجاعة التي كاد يتسبب بها قرار الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين إغلاق جميع الطرق البرية والنهرية المؤدية إلى ذاك الشطر من المدينة.
وفي العالم العربي، يبدو الغرب اليوم أمام مفترق لإعادة التاريخ: فهو إما أن يعيده مأساة لا سلام بعدها، باستمرار تواطئه مع الأنظمة الديكتاتورية العربية على حساب شعوبها؛ أو أن يعيده سلاماً يقوم على احترام حقوق الإنسان العربي في الحرية والكرامة، مستفيداً (الغرب) من خطاياه السابقة، تماماً كما استفاد من خطيئة إذلال ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى والتي لم يكررها بعد الحرب العالمية الثانية، فكانت النتيجة أوروبا المزدهرة الموحدة كما نرى!