كيف يكون الالتزام بالقانون نزعة أخلاقية ذاتية؟

تتحول ظاهرة السلوك غير الاجتماعي في الحياة اليومية والعلاقات الشخصية والمؤسسية وقيادة السيارات إلى تحديات مزعجة للسلطة والمجتمع والأفراد، ويبدو واضحا أن عمليات التنظيم القانوني لم تنجح في تحقيق سلوك اجتماعي مدني يخفف من الأزمات والضغوط التي صارت تؤثر في حياتنا وشعورنا بالرضا والأمان، والحال أن الملاحقة القانونية للمخالفات والجنح وإن كانت تشكل رادعا وتقلل بطبيعة الحال من الفوضى والاعتداءات فإنها لا يمكن ان تنشئ ثقافة سلوكية اجتماعية تحول الاحترام المتبادل والنظافة والالتزام بالحقوق والخصوصيات وقيم التعاطف والمساعدة والتضامن إلى عمليات ذاتية مستقلة عن السلطات والقوانين والخوف والحوافز.اضافة اعلان
إن أسوأ ما يمكن أن تقع فيه النخب والسلطات هو أن تنظر للأفراد والمجتمعات باعتبارها كيانات تتبع الحوافز المادية والقانونية والدينية، أو بعبارة أخرى بناء العلاقات بين السلطة والمجتمعات والأفراد والقوانين والأنظمة على أساس من القهر والحوافز المادية، لكن هذا الأسوأ هو ما يفسر السلوك التنظيمي للسلطات في تطبيق القوانين والعلاقات مع المجتمعات والأفراد، وفي ذلك فقد أنشأت السلطة السياسية والشركات الكبرى (مثل البنوك والكهرباء والاتصالات والمياه والتأمين،..) حالة من العداء بينها وبين المواطنين، تجعل مشاعرهم ومواقفهم تراوح بين الخوف والسلبية والإفشال وعدم التعاون، بل ويفسر ذلك تحول السلوك غير الاجتماعي وانتهاك القوانين والثقافة الأخلاقية والسلوكية العامة إلى أفكار واتجاهات احتجاجية مقبولة، وفي ظل المد الديني السائد فإن هذه السلبية وعدم التعاون مع السلطة والشركات تتحول إلى قيم وفضائل اجتماعية دينية واجتماعية، وأصبح مألوفا ومتداولا القول إن الغش والتهرب الضريبي على سبيل المثال هو عمليات احتجاجية على الظلم والاحتكار.
الأخلاق بما هي تقدير والتزام حرّ وعقلاني بفعل الصواب وتجنب الخطأ بدون حافز مادي أو قانوني أو ديني (لا تكون أخلاقا بغير هذين الشرطين) لا تتشكل إلا في ظل الوفرة الاقتصادية والمعيشية. لا يمكن للإنسان أن يرتقي بذاته الا بتجاوز عتبة البقاء وما يهدد وجوده. وبالطبع فإن دور العقلانية الاجتماعية والأخلاقية أن تخرج الانسان من أوهام الندرة والبقاء والتهديد لأنه من الممكن أن يظل أسيرا لها في مشاعره ومعتقداته حتى مع الوفرة المادية.. هكذا فإن الاخلاق هي تجاوز الخوف.. الكرم مثلا ليس سوى تجاوز الخوف من الجوع أو الفقر او الحاجة، والشجاعة ليست سوى تجاوز الخوف من الموت، والمحبة والتسامح ليست سوى تجاوز الشعور بالتهديد، وفي المقابل فإن البخل والجبن والكراهية ليست سوى الخوف!
فالحاجة الأساسية للإنسان التي تنشئ الغرائز والدوافع والاتجاهات هي الحياة، كيف يبقى حيا؟ كيف يحمي نفسه من الموت أو ما يهدده بالموت، وفي ذلك فإن الغذاء والتكاثر كانتا حاجتين أساسيتين للبقاء، وتشكلت حولهما منظومة واسعة ومعقدة من الأفكار والعلاقات والقيم والأخلاق، .. وعندما يتجاوز الإنسان الخوف والتهديد فإن سلوكه يتجه بطبيعة الحال إلى تحسين البقاء والارتقاء.
هكذا فإن غاية الإنسان السامية هي تجاوز الخوف لأجل الارتقاء، فلا يمكن للإنسان أن يرتقي بذاته إلا إذا تجاوز الخوف أو الشعور بالخوف، وتكون أهمية الأخلاق وضرورتها لتجاوز الخوف وبناء الأمان والثقة.
نلاحظ في الدول المتقدمة نموا ضئيلا في عدد السكان بسبب الشعور بالأمان، والعكس صحيح ففي المجتمعات الفقيرة وفي حالات الحروب والصراعات والكوارث يزيد التكاثر وحالات الزواج المبكر. ويعرف المزارعون أن النباتات عندما تعطش تنتج البذور والعكس صحيح ايضا، ولأجل التخلص من البذور في الثمار يحرصون على سقاية المزروعات للدرجة التي تجعلها لا تخاف، ويعطّشونها لأجل الحصول على البذور. وهنا تكون العقلانية الاجتماعية والاخلاقية أو الاخلاق بما هي عمليات عقلانية أن يتحرر الانسان من الخوف ويدير غرائزه واحتياجاته الأساسية وفق التقدير العقلاني للحياة والبقاء والارتقاء بالحياة.