لا بد من تغيير جذري لمفهوم الفقر

لكل مؤسسة دولية لعبتها في اللغة والأسلوب والمصطلحات والعبارات والمعايير الخاصة بها، عندما يتقنها المحظوظ الملتحق بها يصبح خبيراً دولياً. طالع تقارير البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي أو اليونسكو... تجد كلا منها على نمط واحد. وعندما تستغرب يقال لك: هذه هي لغة المنظمات الدولية. وإذا كان الأمر كذلك، فما أسهل المهمة وما أعظم العائدات!اضافة اعلان
عندما يقوم الخبير أو الخبراء بزيارة قُطر ما لإجراء دراسة أو بحث قبل تقديم قرض ما لإصلاح التعليم أو الصحة أو الاقتصاد، فإنهم يستخدمون تقارير القُطر أو بحوثه، ثم يضعون الأرقام الجديدة مكان القديمة، ويعّدلون الرسوم البيانية في التقرير القديم لوضعها في التقرير الجديد، أو "يفبركون" أرقاماً بموجب نظريات أو حسابات أو تقديرات معينة في القُطر الذي يخلو منها. إنها لعبة عالمية أو دولية ممتدة، ضحيتها شعوب الدول النامية المتخلفة أو المدينة.
المشكلة أن الدول المتخلفة أو المدينة تُحاسب وتُعاقب وتُرتهن مقدراتها بموجب تقارير هؤلاء الخبراء، مع أن الحقيقة هي غير ذلك في معظم الأحيان.
خذ -مثلاً- مفهوم أو موضوع الفقر، تجد أن معالجته تتم حسب مفهوم بائد هو النقطة أو الخط الذي يبين الدخل اللازم لمعيشة الكفاف مالياً. لكن هذه النقطة أو هذا الخط يرتفع أو ينخفض حسب قيم الذين يرسمونه؛ فإذا أرادوا زيادة عدد الفقراء رفعوه، وإذا أرادوا خفض عددهم نزّلوه، لكن الدخل الذي يترجم الفقر به ليس مالاً فقط. إن الفقر متعدد الأشكال أو الأبعاد، وهي عند عالم الاجتماع والاقتصاد "شوشتال" سبعة: 1 - المال، 2 - الثروة، 3 - التعليم، 4 - الخدمات، 5 - المهارات أو المعرفة، 6 - المكانة، 7 - الاحترام الذاتي؛ أي إن الفرد قد لا يكون فقيراً مالياً، ولكنه فقير تعليمياً أو مكانة.. مسكين: مليونير ولكنه أمّيّ!
بفهمنا الفقر بهذا المعنى الجديد، نجد أنه يخترق جميع الفئات والطبقات. لكن الفقر المالي هو الذي تركز عليه دوائر الإحصاءات والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لأنه أسهل لغة ورقماً (رقم مطلق)، مما يجعل من الصعوبة بمكان حل مشكلة الفقر بأوجهه المختلفة اليوم.
لم يعد المفهوم الحالي للفقر مقبولاً. لقد أصبح الفقر (المالي) اليوم نسبياً لأنه صار يعكس مدى شعور الفرد بـ"الحرمان النسبي" (Relative Deprivation)، أي ناجماً عن مقارنة الفرد بما بين يديه وبين ما هو في يدي زميله أو جاره. وبما أن هذا الشعور قائم أبداً، وبخاصة في عصر الاستهلاك الطاغي الذي تؤججه الأسواق والعروض والدعاية والقروض والتقسيط (المريح) التي تحول السلعة إلى حاجة كما يقول إليش (فكر كثيراً في هذا القول)، فان الشعور بالحرمان (بالفقر) لا يتوقف. وهي حالة لا تؤدي إلى الحسد والغيرة فقط، بل إلى الانحراف أيضاً كالذي نشهده في كل ميدان، لإطفاء هذا الشعور الذي لا ينطفئ إلا بالتنشئة والتربية القائمتين على القناعة والاهتمام بالقيم الأخرى، كالمحبة والصداقة والقراءة والفنون.
لقد بينت دراسات متواترة عن الفقر أن كثيراً من الفقراء ليس فقيراً لأنه معدم، بل لأنه يعيش تحت الخط أو المستوى الذي حدده لنفسه نتيجة المقارنة بالغير. ولأن دخله لا يكفي للحصول على جميع السلع والخدمات التي يرغب فيها، فإنه يحسب نفسه فقيراً وإن كان دخله مرتفعاً، ويعتبر كل مساعدة له بمثابة تقليل من الخسارة لا مكسباً، لأن المساعدة تكفيه لشراء سلع أو خدمات، وتحرمه من أخرى يرغب فيها. وإلاّ فليقل لنا الباحثون من دائرة الإحصاءات والبنك الدولي: كم أسرة أردنية لا تقيم في منزل ملك أو مستأجر، وكم أسرة أردنية لا تملك ثلاجة وغسالة وفرن غاز وتلفزيون، وكم تنفق على التدخين، وكم واحداً منها لا يملك تلفوناً خليوياً، وكم مرة حج فرد أو أفراد منها أو ذهبوا للعمرة أو ساحوا في الخارج.. وهكذا. وبعد ذلك اسألوا هذه الأسرة التي تشكو من الفقر كيف تغطي هذه النفقات أين؛ بالديون، أم من صندوق المعونة الوطنية، أم من صندوق التنمية والتشغيل، أم من مصادر أخرى، ما هي؟ وإذا لم تحصلوا على جواب، فكروا بالتهريب وجرائم أخرى، فهي عناوين يومية في الإعلام.
لا تركزوا على الرقم الذي تذكره الأسرة، لأن الاقتصاد الرمادي (ولا أقول الأسود احتراماً لأصحاب هذا اللون الجميل) يعمل فيه كثيرون على نحو أو آخر. ثم قارنوا بين قوة المائة دينار في القرية أو الريف وقوتها في العاصمة حيث يعمل الاقتصاد الرمادي بقوة.
عندما تسأل الناس عن دخلهم أو تعلن عن توزيع غنائم، يصبح الجميع فقراء.