لا تنظروا إلى صيام أحد ولا إلى صلاته

Untitled-1
Untitled-1

د. محمد المجالي

هو باطن الإنسان وحسن أخلاقه وطيب معشره، وليس ظاهر ما يعمله من أعمال، فقد قال الله تعالى: "ليس البر أن تولوا وجوهكم قِبل المشرق والمغرب، ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون".اضافة اعلان
والصيام من أبعد العبادات عن الرياء، ولذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي، وأنا أجزي به"، ومع ذلك، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لا تنظروا إلى صيام أحد ولا إلى صلاته، ولكن انظروا إلى من إذا حدّث صدق، وإذا اؤتمن أدى، وإذا أشفى -أي هم بالمعصية- ورع"، وهي الحقيقة ذاتها، في أهمية باطن الإنسان وانعكاس إيمانه وعباداته على سلوكه، فلا فائدة في عبادة لا تقود صاحبها إلى طيب الأخلاق وحسن المعشر.
وهذه الخصال التي ذكرها سيدنا عمر رضي الله عنه تكاد تكون من أهم ما نفتقده في قطاع عريض حتى بين الملتزمين دينيا، فضلا عن غيرهم من المنتسبين مجرد انتساب لهذا الدين، وقد ذكر رضي الله عنه الصدق والأمانة والورع.
أما الصدق فهو في القول واليقين والإيمان والنية والولاء والالتزام العام بهذا الدين، وعكسه الكذب والخداع والنفاق والتلوّن حسب المواقف والمصالح، وهكذا. والأمانة كذلك تشكل مع الصدق آكد صفات المرسلين، فالدين أمانة، والمسؤولية أمانة، والحقوق بأنواعها أمانة، والواجبات أمانة، وما يستأمنه أحدنا عند الآخر أمانة، ماديا كان أو معنويا، كالأسرار وشؤون الناس الخاصة. أما الورع فهو نتيجة طبيعية لكل عبادات الإنسان، أن تبني فيه المخافة لله تعالى، وتذكّر الوقوف بين يديه، والحساب على كل صغيرة وكبيرة، فيقوده هذا الورع إلى الابتعاد عن كل ما يغضب وجه الله تعالى، فإن همّ بمعصية تذكر الله الذي يراه ويسمعه ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
كلنا بشر، نخطئ ونصيب، وينتابنا شعور الإيمان وشيء من الضعف والميل نحو المعصية، ولكن لا بد في لحظة ما من استشعار معية الله ومراقبته سبحانه، فلم يخبرنا سبحانه عن صفاته نافلة من القول، بل لنتعبّده تعالى بها في شؤون حياتنا كلها، وحين نتذكر أنه سبحانه هو السميع البصير، وهو العليم الخبير، فقد شملت هذه الصفات كل ما يحيط بالإنسان، إن قال فقد سمعه ربه، وإن عمل فقد أبصره ربه، وإن أخفى شيئا في نفسه، فهو العليم الخبير سبحانه، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
هذا رمضان يظلنا برحماته ونفحاته، ولا بد من المراجعة والتقويم الحقيقي للنفس، ولا يتكبرن أحدٌ، كائنا من يكون، على حقيقة ذاته وقيمته عند الله، فلا أحد أعلم بالإنسان من نفسه، ولا يعلم أكثر منه عن نفسه إلا خالقه سبحانه، فكل منا يدرك في أعماق نفسه قيمته عند الله، فلا يكابر أو يبالغ أو يخفي أو يسوِّف توبته، وربما تكون الطامة الكبرى أن يكون من أهل الانحراف، ومع ذلك يظن نفسه أنه مستقيم ملتزم، وذلك حسب فهمه الخاص لهذا الدين، وما يتفوّه به بعض الذين شوهوا الدين بأفهامهم المنقوصة، وشبهاتهم الكثيرة التي يثيرونها على المواقع الإعلامية، مما أسهم كثيرا في زعزعة مكانة الدين وسمو مبادئه عند قطاع عريض من المسلمين.
لا بد من توبة حقيقية وتوجّه حقيقي إلى الله تعالى، لنؤكد على حقه سبحانه علينا، نعبده وحده سبحانه، ونسمو بهذه العبادة بأخلاقنا وشعورنا الإيماني، ليكون أحدنا كأنه ملاك يمشي على الأرض، حين يحقق المعاني الحقيقية للعبادات، من صيام وصلاة، واستشعار لمعيته، وهذه التضحية بالمال ليكون في أيدي مستحقيه، ويرفع معاناة الناس ويدخل السرور عليهم، فكلنا مبتلى، سواء كان في سراء أو ضراء: "فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعّمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدَرَ عليه رزقه فيقول ربي أهانن"، "ونبلوكم بالشر والخير فتنة"، قد يستشعر الذي أصابته ضراء بأنه مبتلى، ولكن القليل من الميسورين من يستشعر أنه مبتلى، وربما ابتلاؤه أشد؛ إذ هو ابتلاء خفي، ولذا اختلف السلف من هو أفضل: غني شاكر أم فقير صابر؟ وربما مالوا إلى أن الغني الشاكر أفضل عند الله من الفقير الصابر.
ليصمم كل منا على التخلص ولو من خصلة سيئة، وعلى جلب ولو خصلة حسنة، يتدرج في التخلية والتحلية، فبعض المسلمين المقبلين على الله تعالى يلزم نفسه مرة واحدة بأن يكون في القمة، وما إن يبدأ حتى يتراخى ويتكاسل، وربما ينتكس ويرجع كما كان أو أسوأ، فالمطلوب هو الشعور الإيماني العام، وتأكيد مخافة الله تعالى في نفسه، ويبدأ مشواره مع الله، خطوة خطوة، يترك سيئة ويجلب حسنة، ولو في الأسبوع أو الشهر مرة ومرة، وهكذا، فالمهم أن يستمر في السير إلى الله تعالى، قد يقف، ولكن لا يرجع، بل هو مستمر في إقباله على الله، والأفضل منه من يسارع ويسابق، ويفر إلى حيث رحمته تعالى والأُنس به.
لحظات الصفاء ضرورية للعبد كي يحاسب نفسه ويقومها، فقد تتاح لنا الآن فرصة، ولا تتاح -لأي سبب- فيما بعد، والعاقل من استدرك نفسه قبل فوات الأوان.