كانت لنا حربٌ مركزيَّة واحدة كلّ عشرة أعوام، نتآزرُ وراءها في موقفٍ واحد معها أو ضدَّها، وحدَثَ في مرَّاتٍ قليلة أن اختلفْنا وفسَدَ الكثيرُ من الودِّ، وقامت بيننا حروبٌ صغيرَةٌ أحالتْها البيانات الرسمية في المصالحات الطارئة، إلى ساعة من “ماركة” الغضب، أو إلى “شطارة” الشيطان، وفي بيانٍ “ذكي” قيلَ إنَّ أسباب الحرب كلها كانت نتيجة “وشاية” ممَّنْ لا يريدون الخير لأمَّتِنا!
خسرنا كلَّ الحروب..؛ ولم نكسب إلا في صوت المذيع المُكابر، وحماسة المغنِّي الزائدة، و”مانشيت” الصفحة الأولى، وفي مشاهد الأبيض والأسود بالأفلام الوثائقية الملوّنة. فيا حبيبتي، أحاولُ، منذُ أن انتهتْ آخر حربٍ منتصرَة، أنْ أقفَ أمامكِ صلباً بقلب خافق كـ”الراية المنصورة”!
لا حرب جديدة يعلنُ عنها التلفاز، فاطمأنَّ قلبي ومارستُ الحلمَ كالناس الذين يمشون في اتجاه واحد. عشرون عاما والعربُ يا حبيبتي يمشونَ وراء إشارات المرور. لم يدخلوا شارعاً مغلقاً بدائرة شديدة الاحمرار، أو يفكروا بمعاكسة السير والعودة لالتقاط ما سقط منهم. عشرون عاما ونحن نحلم أنَّ الطريق قد انتهت، والليل كله “مسألة وقت”؛ كنا نحلمُ..
والآن ليست لدينا إلا أمنية واحدة: أنْ يأتي النهار على أيِّ شكل كان! وجاء نهارٌ، أو شبِّه لنا، فسقط مَنْ كانوا يخسرون الحروبَ باسمنا. فرَّ ديكتاتور، وماتَ آخر، ووضع الثالثُ في القفص في نهاية الفيلم، ورضِيَ الأخيرُ بـ”تسوية” كأيِّ عامل مزعج انتفت الحاجة إلى خدماته، وسقط السوط من يد الحاكم..؛ كلُّ ما أخشاه يا حبيبتي، عليَّ وعليكِ وعلى حبِّنا، من السوط حين صار في يد الناس! كُنَّا نلعنُ الظلامَ في السرِّ، ونضيءُ شمعة أو اثنتين حين تخفُّ الريحُ، تكفيان لأنْ نرى، على الأقل، موطئا لقدمينا، وتحديد وجهة جديدة للسير. الآن، في حروب الناس، إنْ قلتُ رأيا كبيرا في الحاكم الجديد، بالاستناد على هامش الديمقراطية الواسع الذي جاء منه من “باب الربيع”، وأبديتُ تخوفا من أنْ يأخذَنا إلى الوراء أو إلى الأسفل، تُسنَدُ لي خمس تهم أحكامها تكونُ بطول عُمْر “النظام السابق”! الآن أخشى أنْ أقولَ بوضوح شديدٍ: “إنِّي أحبُّكِ”، قد يقتضي ذلك استخراج شهادات براءة، وإبداء الكثير من حُسْن النوايا، وأنْ تكونَ لي ولكِ سيرة خالية من النقد، وإبداء الرأي الذي يخالفُ “الجماعة”. أخشى يا حبيبتي إنْ أحببتُكِ أنْ يشبه حبنا “المرحلة” فأكرهكِ فيما بعد قريب بدون سبب مقنعٍ، ولما أضطرُّ لكِ ثانية نصيغُ علاقة واقعية يتحوَّلُ فيها الحبُّ إلى صداقة؛ فيصبح كالسلام بين عدوَّيْن!
حربٌ لا هوادة فيها في “كلام الناس” بين مَنْ كانوا “مَعْ” ومَنْ صاروا “ضِدْ”..؛ ومساحة الحياد الوحيدة تمَّ السطو عليها لإقامة اعتصام مفتوح لمَنْ صاروا “ضِدَّ” مَنْ كانوا “مع”. لا “ميناء سلام” في الأفق؛ فرغم كلِّ الأغنيات التي تقول على “روتانا” إنَّ الحبَّ ما يزالُ ممكناً، فإنَّ “العربية” تؤكِّد أنَّ خيار الحرب ما يزالُ قائما.
أريدُ هدنة قصيرة يعلنُها الآن السيد المذيع، على قناة محايدة، لأقولَ على الملأ “أحبّكِ بحجم الوطن الذي لم يعُدْ لي ولكِ”! ..وسأحبُّكِ أكثر وأضعُ اسمكِ في صندوق الانتخاب المقبل. وحين تفرزُ النتائجُ ستنالين صوتاً واحداً لا يكفي لدرء الكارثة تلو الكارثة؛ فصناديق الاقتراع في الشرق، يا حبيبتي، جبالٌ ليتَها تكفُّ عن المخاض!