أفكار ومواقف

لماذا من الصعب إنشاء ديمقراطيات حقيقية اليوم؟

موفق ملكاوي

قبل العصر الحديث وتشابك المصالح وتعقدها، وقبل بناء المفهوم الحديث للتبعية، كان تطور المجتمعات يتم اعتمادا على حراكية ذاتية تأخذ زخمها من مدى التطور الطبيعي لمجتمع معين، ومدى نضوجه الفكري واحتياجاته الآنية والمرحلية.

في تلك الفترات، كان التطوير والتحديث وبناء النمط الاحتياجي يتم، إلى حد ما، بمعزل عن تأثيرات القوى السائدة، لأسباب صعوبة انتقال الأشخاص والأفكار والأنماط المعيشية والإنتاجية، أو أنها كانت تتم بتأثيرات محدودة لا تترك مجالا كبيرا للحتمية والضرورة.

في سياق كهذا، امتلكت المجتمعات مساحة كبيرة للمناورة، وطورت آليات ذاتية لبناء أنموذج خاص للحكم والمشاركة الشعبية الذي تستند عليه لاستيعاب أكبر شريحة للمشاركة السياسية.

ربما يشكل مثل هذا التصور مرحلة مراهقة بشرية، أو مثالية سياسية تحاول تمثل مفاهيم العدالة والمساواة والحق في تكافؤ الفرص، قبل أن تستلهم فرضية “النخب”، بجميع أشكالها، والتي تتأسس على تشابك المصالح وتعقدها وتبادلها، وبناء شبكات عابرة للحدود من الاعتماديات التي تتكئ على بعضها بعضا لتحقيق أهداف كانت في ما مضى اقتصادية بحتة، بينما استدخلت اليوم الاقتصاد بالسياسة والاجتماع.

يبدو اليوم أن أي تغيير في مجتمع معين، ما هو إلا محاولة يائسة لمواجهة العالم بأسره، فالروابط الاقتصادية، والعلاقات النفعية، تفضي بالضرورة إلى مواجهات حاسمة تستخدم فيها جميع أنواع الأسلحة، بما فيها سلاح التجويع الذي هو من الأكثر فتكا وتأثيرا بأي مجتمع مهما كان محصنا أيديولوجيا، كما لا يستثنى سلاح الدين الذي تم تطوير خطابه على مدى قرون ليخدم أهداف النخب الحاكمة والمسيطرة في العالم.

في العام 1989، بدأت مدينة تيمشوارا الرومانية شرارة ثورة عمت جميع أنحاء الدولة وأطاحت بالدكتاتورية الحاكمة، في مشهد بدا كما لو أن التاريخ يتوقف ليعيد حساباته حول سلطة الشعب وأهميتها في معادلة بناء الدول والمجتمعات.

بعدها بقليل، بدأت جمهوريات ما كان يعرف بـ”الاتحاد السوفيتي” تخلع عن مجتمعاتها إرث نصف قرن من الدكتاتورية والشمولية، وتحاول التجاوب مع طموحات الشعوب وأمنياتهم في واقع أكثر عدالة وحرية بعيدا عما خطه ستالين من أساسيات في حكم الشعوب واستضعافها.

في العالم العربي تأخرت بوادر الثورة كثيرا والثورات الأولى التي تم تسجيلها كانت عسكرية بامتياز، من مصر إلى ليبيا وسورية والسودان والجزائر والعراق، فقد كانت تتوق إلى زيادة مساحة مركزية القرار، وليس إلى المشاركة السياسية بمفهومها الديمقراطي المستتب عليه نظريا. ولعل “الثورة” العربية الأولى التي حاولت الاستفادة من تفكك الاتحاد السوفيتي هي ما سجلتها الحالة اليمنية بإسقاطها نظاما تقدميا تجاوز كثيرا من الأنظمة العربية القائمة في حينه، من خلال الادعاء الكبير بالوحدة بين الشمال والجنوب، لتنتهي بذلك جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.

الثورة الشعبية العربية الأولى حديثا جاءت من تونس، وتبعتها مصر وليبيا وسورية واليمن الموحد، ومحاولات هزيلة في السودان وغيره، لكن جميعها لم يخرج من إطار الأمنيات، ففي كل البلاد السابقة، كانت “البلوتقراطية” سرعان ما تستعيد توازنها بمساعدة الاستعمار “الحضاري” الحديث، لتأخذ دفة القيادة من جديد.

اليوم، من الصعب جدا أن يتوارى أي محتمع خلف المشهد، حتى لو كان إسهامه في الحياة العالمية يقترب من الصفر.

كل المجتمعات تحت مجهر الحراكية العالمية، وتحت قائمة الحراكات لدور ممكن قادم قد يأتي في أي لحظة مواتية.

اليوم، يبدو الوضع قاتما وغير موات لشغف الإنسان في بحثه عن الذات وعلة الوجود والحرية والعدالة، فهناك شركات عابرة للحدود تفكر بالنيابة عن جميع الدول، وهي وحدها من يستطيع تقرير المسارات.

اليوم، لا تحدد الرغبات الذاتية توجهات المجتمعات، بل تشابكاتها ومصالح النخب وارتباطاتها الداخلية والخارجية، وهي تشابكات مصلحية لا تمنح للحريات وممارسة الديمقراطية أي أولوية، بل على العكس تماما، فهي تريد ممارسات محكومة بأطر تحافظ فيها على مصالحها ومكتسباتها، وهو ما يمكن أن تحققه لها نخب مستبدة.

المقال السابق للكاتب 

الأوليغارشية وتطوراتها

للمزيد من مقالات الكاتب انقر هنا

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock