لماذا يتعبنا الفكر؟!

على مدار أكثر من ربع قرن، تابعت بشكل حثيث مشهداً ثقافياً وفكرياً بائساً، يخلو من النقد من الذاتي، ويعلق الأخطاء والتخلف على مشاجب الآخرين، حتى بت أقرب غلى الاعتقاد أن العقل العربي؛ عضوياً وتشريحياً، يختلف عن نظرائه الآخرين القادرين على التعامل مع الأفكار وتحليلها.اضافة اعلان
في كل مرة أتابع محاضرة أو أستمع إلى شخص يحاول تحليل الواقع المزري الذي وصل إليه عالمنا، تكون هناك قاعدة صلبة من الجمهور أو الدهماء أو الأوصياء على الفكر والعقل، وهي القاعدة التي تعمل جاهدة على نقل الحوار إلى مستويات أخرى من "التفكير" الذي غالباً ما يطور نظريات تجهد في إبعاد تهم التخلف والبدائية لمصلحة نظريات مؤامرة تزدهر باستمرار في عقول جوفاء لا ترى أننا توقفنا عن التفكير والاجتهاد منذ قرون!
تابعت نقاشات عديدة، ليس في الأردن فحسب، بل في كثير من البلدان العربية، وغالباً كان المناقشون يفشلون في التعاطي مع التفكير المنطقي السليم ومع الفكر الذي يطرح المسألة ويحاول تشريحها، بل ينزعون باستمرار إلى الحديث عن السياسة التي يحمّلونها ما لا تحتمل من أوزار.
مثقفون كبار مكرسون، ما يزالون ينظّرون لـ"الرأسمالية المتوحشة"  بحسب صور نثرتها رواية "قلب الظلام" لجوزيف كونراد لكي يجروا التعاطف لمقولاتهم البائسة.
حتى اليوم، في العالم العربي، ما يزال هناك من يؤمن أن بريطانيا هي المحرك الرئيس للأحداث في العالم، وأن الولايات المتحدة تابع ذليل لبريطانيا العظمى، وأنها تتحرك بحسب بوصلة لندن التي تتلاعب بها كلما أرادت ذلك، كحزب التحرير، مثلاً، الذي يعتقد منتسبوه أنهم الوحيدون الذين يعرفون الحقيقة ويحتكرونها، ويسخرون من كل من يخالفهم آراءهم، رغم أن  أدواتهم المعرفية والنقدية لم يتم تحديثها منذ قرن تقريباً.
حتى اليوم، ما يزال الصراع، بالنسبة للتحريريين وأمثالهم، يتأسس على مبدأ محاربة الإسلام و"تعطيل الشريعة"، فيما يتأسس لدي "نخب اليسار" على "تركيع الشعوب"، بينما لم يستطيع أي من تلك "النخب" رؤية أن العالم أصبحت له محركاته الذاتية التي تعمل بانتظام خارج إطار التحكم المركزي، بحيث أن مقولاتهم تصبح أشبه بالهذيان.
اليوم تعمل العولمة بعكس أهواء البلدان التي انطلقت منها، أو التي  شجعتها، فالولايات المتحدة اليوم في عهد دونالد ترامب تعود إلى الحمائية بديلاً عن الاقتصاد الحر والحدود المفتوحة، واليمين المتطرف يتصاعد في أوروبا ردا على كل ما جاءت به العولمة، فيما الاتحاد الأوروبي مهدد بالتفكك، على عهدة يورغان هييرماس في كتابه الأخير وغيره من الدارسين، وهو التفكك الذي بدأته بريطانيا، بينما النزعات الانفصالية للأقليات الأأوروبية تهدد كثيراً من بلدانه.
لكن "مفكرينا" ما يزالون في حالة انكار تام للتغيرات التي طالت العالم، فحتى اليوم جزء كبير منهم يرفض الاعتراف بشيء اسمه "عولمة"، أما القسم الآخر، فيعتبرون العولمة "زراً" تضغط عليه بريطانيا أو أميركا متى شاءت لتحقيق رغباتها!
الأخطر من ذلك، أنهم يعتقدون أن الدول ما تزال تمارس سيادتها كما كان عليه الأمر قبل نصف قرن!
في الحقيقة، نحن بحاجة إلى "روضة تعليمية" لتثقيف كثير من نطلق عليهم ألقاب مفكرين ومثقفين وباحثين، فهم حتى اللحظة تحنطوا في فترة خمسينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الحين لم يستطيعوا تطوير أدواتهم المعرفية والنقدية، ولا الاشتباك مع قضايا المجتمعات، والتغيرات الدولية التي اجتاحت العالم كله.