لماذا ينتخِبُ الناس، أو لا يفعلون..؟

تشكل نسبة ظهور الناس عند صناديق الاقتراع معياراً يقيس ثقة الناس بجدية الدول في اعتناق الديمقراطية. وإذا سجّلت الدول نسب مشاركة هزيلة في التصويت، فإنها تشعر بالحرج –على الأقل، وبفشلها في تسويق صورتها «الديمقراطية». لكنّ هناك أسباباً محسوسة تدفع الناس إلى المشاركة في هذه العملية، أو الإحجام عنها. وهي كثيرة ويمكن الذهاب في بحثها إلى العمق، وهو ما تتكفل به الدراسات والمسوحات.اضافة اعلان
بعيداً عن الأسباب النفسية والاجتماعية المركبة التي يرصدونها في العالم الديمقراطي المتقدم، فإن الناس قد يشاركون في أي انتخابات في العالم غير الديمقراطي، إذا عرضت الممارسة فرقاً يمكن الشعور به إذا فاز فريق دون آخر. وفي الحقيقة، ليست هناك فروقات كبيرة مغيّرة للعبة في هذا العالَم بتغير الفائزين، لأن الخطوط العامة لنتائج الاقتراعات تكون محددة سلفاً على الأغلب، إما بضمان قلة وضعف المنافسين للفائز المرغوب، أو لقيام الحكومات بتصميم قوانين الانتخاب، ونوعية المتنافسين والمناخ العام بحيث تضمن حصيلة مرتبة سلفاً.
في «الجمهوريات» العربية مثلاً، يفوز الرئيس وحزبه دائماً بنسبة خيالية، بناء على الترتيبات المذكورة، وأولها تعديل الدساتير لتكفل له ولايات أبدية. وقد يشارك الناس في التصويت خوفاً من عقاب محتمل، وأحياناً بدفع من المؤسسات التي يعملون فيها، أو لأسباب صغيرة كثيرة. وهم يعرفون أن النتيجة محسومة سلفاً وأن ظهورهم أو غيابهم لا يُحدثان فرقاً.
بالنسبة للبرلمانات، يُفترض أن يُنتخب أعضاؤها على أساس سباق بين أحزاب -وربما قليل من المستقلين- بحيث يترأس زعيم الحزب الذي يفوز بأكبر عدد من المقاعد الحكومة ويقوم بتشكلها لتنفيذ السياسات التي وعد بها برنامج حزبه الانتخابي. ويغلب، في الديمقراطيات الحقيقية، أن يتنافس على البرلمان/ رئاسة الحكومة حزبان رئيسيان، واحد محافظ وآخر تقدمي. وسوف يتنافس الحزبان ببرنامجين يحملان هويتيهما الأيديولوجية، وحلولهما للقضايا الأساسية على أساسها، من السياسات الداخلية والخارجية للدولة، إلى إدارة الخدمات مثل التعليم والصحة والضرائب والتوظيف والاستثمار والأمن الاجتماعي والاقتصادي.
إذا لم تكن للبرلمانات أدوار حاسمة من هذا النوع، فإنها تكون كيانات تجميلية لا تمثل شيئاً ولا تصنع شيئاً في نهاية المطاف. وسوف تأخذ الناس إلى الصناديق دوافع ثانوية للمشاركة في عملية ثانوية ليست ضرورية عملياً. لذلك، في غياب الأحزاب المؤثرة، والبرامج الشاملة التي تحملها من واقع امتلاك السلطة لتنفيذها لدى الفوز، يطرح المرشحون أنفسهم بلا برامج ويخفضون سقف وعودهم إلى تحسين بعض الخدمات المحلية –بل ووعود فردية بتوظيف هذا أو تعبيد مدخل منزل ذاك. وسوف يعتمدون على عاطفة العشيرة والعائلة والجيران والأصدقاء في جلب ناخبين إلى الصناديق. وفي النهاية، لن تكون الحصيلة شيئاً.
من دون حياة حزبية حرة نشطة ولها تقاليد وقواعد دعم شعبية عريضة، وتمكين الأغلبية البرلمانية من التمتع بسلطات تنفيذية، لن يكون للبرلمانات المنفصلة عن الجمهور ومطالبه والتي بلا كتل وازنة ولاحول ولا قوة له أمام سلطة حكومة من خارجه ومتنافسة معه. وسوف يكون له سقف لنوعية القرارات التي يتخذها، وسيكون أداؤه محل ازدراء من الشعوب التي لا يمثلها ولا يحمل صوتها.
في الأصل، تتنافس البرامج على أساس تقديم عروض للشباب: الوظائف، والتعليم، وفتح الطريق إلى المستقبل؛ وللشيوخ: المعاشات التقاعدية والتأمين الصحي والكرامة في آخر العمر؛ وللنساء: التشريعات والسياسات التي تكفل لهن المساواة في المعاملة والأجور والفرصة؛ وللجميع: تأمين الوسائل لضمان استقلال القرار الوطني والكرامة الجمعية على أساس رغبات المواطنين؛ وإحساس الفرد بأن له رأي في ما يُقرر له وبشأنه، ووصول إلى محاسبة المسؤول إذا ظلمه في القرار، بوساطة ممثليه القادرين.
لماذا ينتخب أناس برلمانات غير مصممة بأي ولأي من هذا؟ بسبب «التخجيل»؛ الولاء العصبوي للعائلة والقبيلة والصديق؛ التباهي «بشَعر الخالة»، وربما وعد شخصي بقضاء مصلحة. ولماذا لا ينتخبون؟ لأنهم لا يعتقدون بجدية العرض الديمقراطي؛ لأنهم يرون في ذهابهم إلى الصندوق مشاركة في إنجاح عرض بلا بداية ولا ذروة ولا حل للعقدة؛ ولأنهم يدركون أن أدوارهم تبدأ وتنتهي بإسقاط ورقة الأسماء في الصندوق. وسوف يغادرون "مثل شاهد الزور"، حتى بلا أقل مكافأة للـ"الكومبارس" –التباهي بـ"التمثيل" في طرف المسرح أو خلفية الشاشة.