لنتعلم من كيسنجر

معاريف زلمان شوفال 19/11/2019 "كيسنجر عن كيسنجر"، هو كتاب قصير صدر مؤخرا في الولايات المتحدة، يقوم على اساس محادثات بين هنري كيسنجر وبين اثنين من مساعديه الرئيسيين، حين كان مستشارا للامن القومي وبعد ذلك وزيرا للخارجية في ادارة الرئيس نيكسون، مثابة شهادة حية للتاريخ. الكتاب الذي يطرح افكارا عن الدبلوماسية، الزعامة، السياسة وما يسمى "الاستراتيجية الكبرى" – استراتيجية شاملة لكل المواضيع والمجالات التي تقف امام اصحاب القرار – هو كتاب الزامي لكل من يعنى بهذه الامور في اسرائيل، ولكنه يغطي ايضا بعضا من القضايا المركزية التي عالجها كيسنجر في حينه: اقامة العلاقات مع الصين، المواجهات مع الاتحاد السوفياتي، حرب فيتنام والشرق الاوسط، على أن التشديد هو على حرب يوم الغفران والتطورات السياسية في اعقابها. القارئ الاسرائيلي كفيل بأن يهمه الفصل الاخير، ولكن ربما لا تقل اهمية وواقعية هي فصول اخرى، بما في ذلك الفصل الذي يبحث في التطورات العسكرية والدبلوماسية حول حرب فيتنام، ولا سيما العلاقة بينها وبين الوضع السياسي الداخلي في الولايات المتحدة. يروي كيسنجر عن أنه رغم انه في المفاوضات السياسية التي جرت لإنهاء الحرب لم يعرض ممثلو الشمال الشيوعيون أي مرونة، فإن العداء في الجانب اليساري من الخريطة السياسية في الولايات المتحدة للادارة الجمهورية أدت الى نشوء اجواء في الرأي العام الاميركي وفي الكونغرس عملت في صالح الشيوعيين. وعرضهم هذا في ضوء ايجابي لمحبي سلام مزعومين – وهكذا زاد أكثر فأكثر عنادهم وعدم استعدادهم للوصول الى حلول وسط. كيسنجر نفسه، بالمناسبة، كان متحفظا من الحرب ودور الولايات المتحدة فيها، ولكنه رأى دوره كمن يتعين عليه أن يعمل على تسوية معقولة تقوم على اساس تنازلات متبادلة، وتضمن حقوق سكان الجنوب. مع كل الفوارق، هناك اوجه شبه معينة بين التاريخ آنف الذكر والمعركة بين اسرائيل والفلسطينيين والعرب بشكل عام. فالفلسطينيون، ومنظماتهم ومؤسساتهم السياسية، تعلموا من فيتنام الشمالية ليس فقط اساليب القتال وحفر الانفاق بل وايضا كيف يديرون مفاوضات افتراضية دون استعداد حقيقي للتنازل. وذلك في ظل استغلال ذكي لضعف الجبهة الاسرائيلية الداخلية من اجل الاقناع بأنهم الطرف المحب للسلام بينما الحكومة الاسرائيلية هي الرافضة. بالمناسبة، في إبان المفاوضات على اتفاق السلام حاول المصريون ايضا التمسك بالجناح اليساري من الخريطة السياسية لاسرائيل لأجل تحسين مواقفهم في وجه رئيس الوزراء بيغن ووزير الخارجية دايان. وتابعوا بعناية نشاطات وبيانات حركة السلام الآن لعرض الحكومة في ضوء سلبي في نظر الجمهور الاسرائيلي والتشكيك بوحدة الجمهور. وعزت القاهرة لذلك اهمية كبيرة جدا، بحيث إن رئيس الوزراء في حينه، مصطفى خليل هو الذي كان يعالج الموضوع. اما بالنسبة للفلسطينيين، فقد علم من مصادر مطلعة عن حديث جرى بين فيصل الحسيني، من كبار الزعماء الفلسطينيين في حينه (والذي بفضل بضع تصريحات معتدلة مزعومة اعتبر من جانب قسم من المؤسسة السياسية الاسرائيلية رجل سلام)، وبين نشطاء فلسطينيين، شرح فيه بأن الهدف الحقيقي من اتفاق اوسلو ليس السلام، او الحل الوسط بل ضعضعة الوحدة الاسرائيلية والتسبب بالتآكل التدريجي لدولة اسرائيل. وسار ياسر عرفات بالطبع شوطا اكبر إذ وصف في كتاب شمعون شيفر عن محادثاته مع اللواء احتياط عاموس جلعاد بأنه "محدث الارهاب الاكبر هنا منذ الازل، وحسب مفهومه فان اتفاق المبادئ الذي وقع في اوسلو استهدف تفكيك اسرائيل وتسريع اختفائها عن الساحة". على مدى فترة معينة، عمل تكتيك الاكاذيب الفلسطيني هذا وكل من عارض اتفاق اوسلو عرض في وسائل الاعلام المجندة كـ "عدو السلام". اما حجم فشل مسيرة اوسلو فواضح في هذه الاثناء للجميع والاجواء في الجمهور تغيرت ولكن هذا لا يمنع مهاجمي نتنياهو في البلاد وفي العالم من أن يلقوا عليه بالذات المسؤولية عن الجمود في المسيرة السياسية، بالضبط مثلما اتهم اليسار الاميركي في حينه من ادار المفاوضات بالجمود الذي نشأ حول فيتنام. كان من المجدي ان يتعلموا في اسرائيل من التاريخ، وان يتفرغوا لقراءة كتاب "كيسنجر عن كيسنجر".اضافة اعلان