لهذا أخفق ابن رشد

ما كان لابن رشد أن يفوز في انتخابات اللامركزية، فقد توفي قبل ثمانمائة عام تقريباً، ومع أنه أسس للتنوير والعقلانية الأوروبية، إلا أنه عاش ومات غريباً في الحضارة العربية، وأول محاولة لاستحضاره في العصر الحديث كانت مع فرح أنطون، أي بعد وفاته بسبعة قرون تقريباً، -أوائل القرن العشرين، وحتى هذه المحاولة كانت في حقيقتها استحضارا لأثره في أوروبا أكثر منها تأسيساً للتنوير والعقلانية في الفكر العربي الحديث. اضافة اعلان
وإذا أقامت أوروبا الحاكمية للعقل منذ بداية القرن السابع عشر، فقد قدمت الكثير من التضحيات لتأسيس العقلانية عملياً وفعلياً في الفكر والحضارة الأوروبية، حتى صارت العقلانية والعلمانية؛ "أولوية العلم"، سمة في حضارتهم، وسلوكاً يومياً لفردهم، ونمط تفكير في الجامعة وأسلوب حياة في المختبر العلمي، كل ذلك في ظل ثورة حضارية فلسفية، وضعت العقل عندهم في مكانه؛ أداة للبحث عن المعرفة سنداً لصدق التجربة الإنسانية وليس سنداً للغيب والخرافة. ولهذا فهي لم تفصل الدين عن السياسة، بل فصلت العقل أولاً عن الخرافة والغيب، وموضعت العقل مكانه، حينها ما كان للإيمان إلا أن يحتل وضعه الطبيعي في القلب والجوارح. ومن هنا تجد أن دعوة فصل الدين عن السياسة في أوروبا، لم تكن دعوة ضد الدين أو انحيازاً للسياسة، بل كانت نتيجة للجهد الفلسفي السياسي الحضاري الأهم وهو تأسيس حاكمية العقل، تلك الحاكمية التي ترجمها نضال الشعوب والفلاسفة والمثقفين والتنويريين عندهم، إلى جهد مجتمعي فاعل نحو العلم والبحث العلمي بهدف خدمة حرية الفرد وسلام المجتمع.
بالمقابل غرق "التنوير العربي" في استحضار إشكاليات التنوير الأوروبي مغفلاً العمل الفعلي للتنوير ذاته وهو حاكمية العقل، ولهذا تجد أن قضية فصل الدين عن السياسة عندنا قضية مزيفة نوعاً ما، ذلك أن الفرد ذاته غيبي "ولا أقول متدين" سواءً كان في صف السياسة أو في صف الدين، وهو ما يفسر وجود أفكار تقدمية ولكن ليس بالضرورة إنسانا تقدميا، فالمواطن العربي يعيش العصور الوسطى ذهنيا، ولكنه يعيش مرحلة ما بعد الحداثة تكنولوجياً، يتحدث بالعقل وفضله ولكنه يركن عملياً للوهم والخرافة وغياب التفكير العلمي في حياته العلمية والسياسية. أليس استغرابنا لنتائج التنوير في انتخابات اللامركزية دليلٌ على عقل غيبي؟ ألم نتوقع من الهيئة المستقلة للانتخاب إلى جانب تحضير صندوق الانتخاب أن تمدنا بالمؤيدين التنويريين أيضاً؟ أليست نسبة الاقتراع في العاصمة تنبئ عن تواكل في استحضار نتائج تنويرية من السماء؟ نعم، عقل سياسي تنويري غيبي حيث يكون التنوير فكرة وليس نمط حياة، وقشرة وليس نهج سلوك، موقف وليس عقيدة!
نحتاج "ثورة  تصحيحية" في نهج التنوير ذاته، يعيد له حاكمية العقل فعلاً وعملاً، نحتاج أن نعلن حاكمية العقل وأن نرفض أي سلطة غير سلطة العقل، حاكمية تكون نهجاً ومنهاجا، يعلي شأن العلم والبحث العلمي ويشجع العلوم البحتة كالرياضيات والفيزياء وغيرها، ونحتاج إلى الاستفادة من علوم الآخرين، إضافة إلى جهد بحث علمي من طرفنا لغايات تسخير الطبيعة للإنسان والمساهمة في الحضارة وخلافة الأرض، نحتاج أن نجهر في حياتنا اليومية بأننا لا نقبل إلا سلطة العقل موجهاً وهادياً باعتبار حاكمية العقل متطلباً حضارياً إنسانياً حتى للذين يقولون بحاكمية الله، ونحتاج إلى أن ندافع عن حق الرشديين في التبشير بتنويرهم، نحتاج أن نرفض أي وصاية على الإنسان سوى ضميره والقانون، وأن نصدع بذلك وأن نعيشه يومياً، ونرفض بالتحديد وصاية رجال الدين ورجال السياسية على حرية الفرد التي هي قيمة القيم، نحتاج أن نمجد المواطن المنتج ونسخر العلم له صانعاً وتاجراً ومزارعاً، فلا مستقبل بالمواطنة الخاملة. نحتاج إلى أن نخلق الدافع والسلوك والبيئة التشريعية لإزهار دائرة الإنتاج على أسس من العدالة والشفافية وتكافؤ الفرص في الصحة والتعليم والتنقل وفرص الإبداع.
خلاصة القول أن التنوير هو حالة فاعلة عملية فلسفية علمية سياسية فنية متشابكة أساسها مواطن فاعل سياسياً ومنتج اقتصادياً، وحر ذاتياً، ومدافع شرس عن حقوقه وحرياته، ولهذا فإن ابن رشد أخفق في انتخابات اللامركزية.