لوّن أيها الدم هذه اللوحة التي نسميها الأرض

قصيدة جديدة لأدونيس

 

ـ 1 ـ

قولوا: أُوحِي اليهم.

أختام شعوب وألسنة.

حقول منتجين ومستهلكين.

اضافة اعلان

يسيسون حتى الهواء.

هاتوا الأعلام، اربطوا رؤوسكم بأقدامكم

هنا على حدود.. يحرسها خفر لا من الجبال

لا من السواحل، بل من الغيب.

أو قولوا: أوحي الينا.

ـ 2 ـ

ـ لم تعد جدتي إلا سكيناً.

ـ لم يعد جدي إلا ذبحاً.

ـ ما القبر الذي سيأخذك السفر اليه، أيها المترحل؟

أرهقت الطرق بحوافر بغلتك. أنزل أثقالك عنها، وامنحها الراحة. ولماذا لا تشتغل، وأنت جالس، كمثل فلكي، بخريطة السماء؟ لا تزال نجومها تنتظر من يحرث ومن يزرع. مع أن الحصاد هنا كذلك لا يؤخذ الا حرباً. أعط هذه البغلة لسفينة تمخر في الحنجرة، أو لرأس ليس إلا حلبة للرقص. يكفي أن تصغي لمن يروي كيف تصف ملاعق الجنة فوق موائد تتنتقل على أفخاذ الكواكب، أو كيف يفرش الناس بأهدابهم دروس السياسة.

تقتفي الأرض خطوات ورق يقتفي الغيب.

أمر بحفر خندق للرؤوس التي ضربت اليوم.

بشراً يعيشون ويفكرون كأنهم لا يعرفون

أن يغسلوا وجوههم إلا بالدم.

ـ 3 ـ

في الطريق التي تصل شرقه بغربه، هنا في طنجة، في "قصر المجاز"، كان يسير كمن يتسلق جذع تاريخ يتسلق القيقلان (1)

ـ "نزهة قصيرة على فرس الموج"، قال صديقه (2)، مشيراً الى المسافة التي عبرها طارق (3)، لكي يؤسس الأندلس.

أخذ يشعر، هو الحاضر الحي، كأنه ليس إلا ماضياً. وتراءى له الوطن كمثل ورق يتطاير في الجهات كلها.

وما هذه الأيام التي تقتل في الصوم والنوم؟

وما هذه الشوارع التي يزدردها العصر؟

ورأى، بين "قصر المجاز" وأشلاء بغداد، كيف تتحول بلاد العرب الى معسكر لغرب الحديد، والى مشفى تقطع فيه أطراف المستقبل.

(1) نبات جميل بزهر أصفر يسمى في سوريا ولبنان "الوزّال".

(2) هو الشاعر الدكتور احمد الطريبق أحمد. وتبلغ هذه المسافة البحرية نحو ثمانية عشر كيلو متراً.

(3) طارق بن زياد.

فقر يلتهم العقل.

البشر أرقام وألفاظ.

أصغوا: قائد يخطب كأنه أبتلع تنيناً. لا تصغوا.

الرحيق في التراب لافى الكتاب. الورد في الحقل، لا في الهيكل.

ويكاد الهواء أن يختنق من دخان الكلام.

وحمداً لابتكارنا ـ حمداً للصفر.

كان أن ينسلخ من نفسه.

وخيل اليه أن قبلة عالقة في ذلك الفراغ، بين "طريفة" و"قصر المجاز"، قبلةً عجوزاً، ترفض الهبوط على شفتى البحر واليابسة.

ورأى على رصيف ما تبقى من "قصر المجاز" قوارب صيد تبدو كأنها بقايا مذنبات ارتطمت، من هنيهة، بالصخر والموج. حولها أشباح صيادين يسألونها: ما الأبدية، وما هذا الطفل الزمن؟

رمل على الشاطئ يتشهى أقدام النساء، فيما يعانق أجنحة النوارس.

موج ينافس أعناق الغيوب تحت شمس تؤرجحها اللذة في سرير الفضاء.

والضوء،

كمثل عقل يفتح أحشاءه لماء الغريزة.

ـ 4 ـ

عد ثانية الى الرأس، أيها الحلم، وأنت، أيتها السياسة، ألم تتعبي من الخبط بين الأشلاء تحت مظلة حاكم ينام حمامة ويستيقظ ذئباً؟ ويكاد ذلك الشاعر المسافر أن يسأل طارقاً: ولماذا نجحت لكي تقتل؟ ويكاد أن يصرخ باسمه: ألم تتعبي، أيتها العروبة، من غزل منديلك بالدم، ومن الغناء لسلالة الهباء؟

تقتفي الأرض خطوات ورق يقتفي الغيب.

العروش حساء أحمر.

التاريخ، تابل من المال والمنى والملك.

كلا، لا طريق الا كلا.

ـ 5 ـ

هنا من طنجة التي تضع قدماً في المتوسط وقدماً في الأطلسي، كما لا يتيسر الا لمدينة لم تخلق على مثال، يحتضن الشاعر العالم الذي تئن اللغة العربية في أرجائه، ويكاد أن ينزوى في غصن قيقلان كمثل عصفور ضل طريقه، أو أن ينام على وسادة ليست الا حجراً فينيقياً.

وليس فينيقياً التي تأبجد فيها الغرب، أكثر من خربه في هذا الشرق.

انتحبى أيتها الأبجدية، ما شئت. لن يُصغي اليك الا الحجر والعذاب. يتوقع الشاعر انهيارك أيضاً وأيضاً، أيها العلم. يتوقع أن تنقلب أشجارك الى أجراس من اللهب. أن تصير كل حصاة فيك لوحاً مكتوباً بالدمع.

ومن أين يجيء هذا الأفق الذي لا يعرف أن يقرأه الا الرماد؟

إعترض هذا الشاعر، عارضة أيها الشارع.

إعمل شيئاً يكذب يديه وعينيه. شيئاً يبطل كلماته. تمرد، وانقضه. ينتظرك حتى في قرون المخيلة. يترصدك حتى في دفتر الغيم واحتفاءً بما يحرضك عليه، سيحضن من أجلك التوهم، ويصفق للمعجزة.

تقتفى الأرض خطوات ورق يقتفى الغيب.

لماذا تستمر في سباتك أيها السيد العمل؟

أشباح تسن أظافرها وتغرسها في بلاط الشوارع.

من أين لك هذا الإكليل المدمى، يا رأس التاريخ؟

ـ 6 ـ

أيام تولد في القُرّاص والطُّحلب. لها طبول تكاد

أصواتها أن تثقب حتى أذن البحر الميت.

وكل شيء صنبور يقطر صداً.

أيام يتنقل فيها هذا الشاعر على مهل كأنه أخ للشجر والحجر.

غير أنه يتعلم حكمة الضوء، فيما يرى الأزقة والبيوت كأنها قبور لأنفاس البشر. لكن، كيف يخلق لمعناه صورة لكي يحل في اللغة حلول الملح في الخبز؟

وكيف يقنع هذا العالم أن الورق هو، وحده، أب لحقائقه؟

ريح تنقر على الجدران. ريح تبكى في نواقيس الوقت.

ريح يجس أطرافها وسترتها لعله يعرف هلال حيضها، ويبصر جنين الأحشاء.

خذيه اليك، يا أرض الصور. هل بقيت في فراشك وسادة لرأس لم يعد يعرف النوم؟ هل تغفرين لجسد كل عصم الا عصم الخطيئة؟

وكيف يعثر على نفسه فيك؟

نقح ليلك بليل امرأة ذائبة في جحيمها.

هذب جسدك بفتنة الحب.

ساعة تتدلى على حائط المعنى، ترتل عقرب الخرافات.

لن تجد مفراً من رؤية الرمل يتسلق الفضاء.

ـ 7 ـ

ـ "يمكنك أن تداعب جذر الخشخاش"، يقول ولى أمرك، أو أن تنطرح على وسادته". آنذاك، يدخل الصوان في صورة الماء، وتلبس البقرة صورة الفراشة.

ـ هل تحبين، أيتها الطبيعة، هذا التحول؟

عالم ـ سفينة تجنح في محيط المعنى.

فلك يموت، يجهل كيف يكتب وصاياه.

كل شيء ملدوغ بعقرب نهاياته.

حلزون يرفع قرنيه ويشكهما في إسفنج الهواء.

ما أطول الجهد الذي يبذله الإنسان لكي يصير إنساناً.

(مقاطع)

عن "اخبار الأدب في عددها الأخير"