ليس بأمانيكم

د. أحمد ياسين القرالة

يفرق علماء المسلمين بين الأماني والآمال، فالأماني هي ما كانت مبنية على الأسباب ومقيدة بها ومعتمدة عليها، يسير الإنسان معها وفقاً لقوانين الكون ونواميسه، التي قضت بأن المسَببات في هذا الوجود لا تنال إلا بأسبابها، والنتائج لا تتحق دون مقدماتها.اضافة اعلان
ويعتبر الأمل  ضرورياً للإنسان لا تستقيم حياته ولا تستمر إلا به، فلولاه لما وصلت البشرية إلى ما وصلت إليه من تطور هائل وتقدم عظيم في المجالات كافة، إذ استطاع به الإنسان أن يقهر اليأس وأن يكافح الإحباط، وأن يتحمل الآلام ويعاني الصعوبات؛ لتحقيق ما تصبو إليه نفسه وما يرنو إليه بصره.
فالأمل هو القيمة المضافة التي يتحول بها القليل إلى كثير ويصبح معها العسير يسيراً، فهو قوة إيجابية دافعة للعمل والإبداع، تمكّن معه الإنسان من أن يشيّد الحضارات ويحقق الانتصارات ويصنع المعجزات.
أما الأماني فهي ما تجردت عن أسبابها وتنكبت لوسائلها؛ فهي لا تعدو أن تكون طلباً لنتائج بلا مقدمات وسعياً لجني ثمار لم تستزرع أصولها أصلاً، ورغبة في تحقيق ربح لا رأس مال له، فالمتمني فرداً كان أو أمة هو مَن يبتغي تحصيل مقاصده وتحقيق مراده وهو مكتوف اليدين جالس في بيته ينتظر حصولها حصولا ذاتياً.
فليست الأماني سوى أحلام يقظة، ورغبات عاجز، يتعلق بها الإنسان بأحبال من الوهم، ويجري معها وراء سراب خادع، ضررها كبير ونتائجها وخيمة؛ فهي فضلاً عن كونها لا تحقق مقصوداً ولا تنتج غاية، تستنزف الوقت وتعطل الطاقات وتشل الإرادات، مما يؤدي إلى تفاقم المشكلات وتعقد الأوضاع.
وقد بين القرآن الكريم في غير موضع أن الأمنيات المجردة والرغبات الفارغة لا تحقق مقصداً ولا تجلب نفعاً، لا فرق في ذلك بين الدنيا وبين الآخرة، فقال تعالى: ﴿ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴾ أي أن الجزاء ليس تابعاً لأماني الناس ورغباتهم ولا هو وفق أهوائهم وشهواتهم، بل هو تابع لأعمالهم وأفعالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وللإمام رشيد رضا كلام جميل في تفسير هذه الآية حيث يقول: ليس شرف الدين وفضله ولا نجاة أهله به أن يقول القائل منهم: إن ديني أفضل وأكمل وأحق وأثبت، وإنما عليه إذا كان موقناً به أن يعمل بما يهديه إليه، فإن الجزاء إنما يكون على العمل لا على التمني والغرور، فلا أمر نجاتكم أيها المسلمون منوطاً بأمانيكم في دينكم، ولا أمر نجاة أهل الكتاب منوطاً بأمانيهم في دينهم، فإن الأديان ما شرعت للتفاخر والتباهي، ولا تحصل فائدتها بمجرد الانتماء إليها والتمدح بها بلوك الألسنة والتشدق في الكلام ، بل شرعت للعمل.
وكفى بالأمنيات سوءاً وضرراً أنها تعتبر كذباً على النفس وتغريراً بها، وتضليلاً لها، وليس أسوأ من أن يكذب الإنسان على نفسه ولا أقبح من أن يخدع المرء ذاته، فيعيش وهماً يجعله يرى الجنة حكراً عليه، وأن النار خلقت لغيره، قال تعالى: ﴿  وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾، وقال تعالى: ﴿ينَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ  قَالُوا بَلَىٰ وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾.       
 ولما كانت أمنيات الناس متخالفة متعارضة كان من المستحيل أن تتحقق لهم في الوقت ذاته كل أمنياتهم ورغباتهم؛ ولو نال الإنسان مطالبه بالتمني لتعطلت قوانين الحياة وتوقفت دائرة الإبداع والعطاء، فيفقد الإنسان دور في عمارة هذا الكون وتحقيق الاستخلاف الذي هيأه الله تعالى له؛ لذلك نفى القرآن الكريم نوال الإنسان شيئاً من رغباته أو تحقيقه غاية من غاياته بالأمنيات وحدها، ما دامت هذه الأمنيات متجردة عن العمل ومتنكبة لقوانين الحياة وسننها، فقال تعالى:﴿ أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى﴾، أي فليس للإنسان شيء مما تمنى، وفي هذا يقول  كعب بن زهير :
فَلا يَغُرَّنَكَ ما مَنَّت وَما وَعَدَت
إِنَّ الأَمانِيَ وَالأَحلامَ تَضليلُ.
فعلى الأمة التي تسعى لأن يكون لها مقام ومكان بين الأمم، أن تشمّر عن ساعد الجد وأن تبذل قصارى جهدها، وأن تأخذ بأسباب الرقي والتقدم جليلها وحقيرها، وأن تتسلح بالأمل الفسيح الذي يذلل الصعاب ويسهل العسير، وعليها أن تكافح التبطل والكسل وأن تجابه الأماني وأن تتصدى للمروجين لها، فهم لا يزيدون الأمة إلا خدراً يفقدها القدرة على الحركة والفعل، ويجعلها تتنظر المنقذ والمخلص لها من واقعها الأليم، مع أنه لا مخلص لها إلا عملها ولا منقض لها إلا جهدها واجتهادها المتسلح بالأمل.