لَسنا مُستريحين.. هذه هي المُشكلة!

في حُمّى الإنفاق التي أصبحت ثقافة رمضانيّة، ربّما نفكّر في أنفسِنا وفي غيرنا، كأفراد ننتمي إلى دوائر اجتماعية تكبُر حتى تصل إلى عائلة الإنسانية الكبيرة. وقد سألتُ صديقاً عن حاله -كما نسأل دائماً ونحنُ نعرف الجواب الحقيقي، فأجاب كما نُجيب كثيراً: "الصحة لا بأس، والأولاد والبنات بخير. وماذا يريد الواحد أكثر من ذلك؟!" وقلتُ له أيضاً: نحنُ فعلاً أفضل حالاً من غَيرنا. ولكنْ هل نحنُ مستريحون؟! فقال: هذه هي المُشكلة..!اضافة اعلان
نَحنُ لَسنا مستريحين، ولو أنّ رمضان جاءنا ويغادرنا و"الصحة والأولاد والبناتُ بخير"، لأنَّ راحة البال ليست بسيطةً هكذا. وليتها كانَت بسيطة بحيث ينام المرء ملء العين بمجرد اطمئنانه إلى أن أفراد عائلته ينامون، سالمين، في أسرّتهم. رُبّما تكون للقلق الخفيّ علاقة بغريزة بقاء النّوع، التي يتحقّق بعضها بإنجاب البنات والأولاد وفكرة الامتداد. لكنّ المرء يقلقُ على فكرة البقاء نفسها وهوَ يُشاهد ما يتهدّد البشريَّة من مآسٍ غير مسبوقة تصنعها لنفسها، فيحسُّ بأنّه ليس بخير، وبأنّه غير مرتاح، لأنّ مستقبل الأبناء غير آمن في عالَم يزداد ظُلمة.
وقد انشغل البعضُ منّا عن الفكر، معظم مساءات رمضان، في نشاط اجتماعيّ غذائي: "يا عازِم، يا مَعزوم"، وعوّضوا شيئاً مما أنفقوه على صناعة المآدب للآخرين، بما التهموه على مآدب الآخرين. وآخرون كفّروا عن أخطاء ربما اقترفوها أثناء جمع ثروة العام التي قد يكون خالطها حرام، فأقاموا موائد الرحمن وبذلوا شيئاً لتبرئة الذمة والبدء جديدين. وكانَ الشّهر موسماً مُثمراً للمشتغلين بالتسوُّل، وموسِمَ ألَم مُضاعَف لمواطنينا عزيزي النّفوس، ممن يجوعون ولا يَسألون، والذين ربّما تساءلوا عن العَدالة في أن يفرط غيرهم في الإسراف حدّ الكُفر، ويرون أنفسَهم يصارعون العيش من الرّزق القليل.
ومع ذلك، فإنّ الجوع والعَطشَ المؤقّتين في اليوم الرمضاني، واللذين ينتهيان بمأدبة من نوع ما، وبإطفاء العطش بالحساء أو حتى بالماء، ليسا نظيرَين لاحتضار إخوتنا في الإنسانية جوعاً وعطشاً في كثير من مناطق هذا العالَم، في كل أيام وأشهر العام. ويبدو المَشهدُ الكلّي لخبرة العيش على الكوكب في ذهاب مستمرّ إلى شكل غريب من الوحشيّة. وكلّما تقدم العِلمُ خطوة فانتصر على مَرض ماكر، يذهبُ به آخرون خطوات نحو جعل القتل أكثر قتلاً، ووسائط السيطرة والاستعباد والأَثَرة أكثر شراسة وإتقاناً. ولَم يعد بالوسع الحديث عن شيء اسمه الضّمير الإنساني، والقيم الإنسانية المُشتركة، في وقت تصبح فيه هذه المفاهيم أكثر اختلاطاً ونسبية من أنْ يعتنقها المرء بثقة. ويجري تبرير كلّ شيء وعلى أيّ مستوى، من الأفراد إلى الأمم، بمنطق ميكافيللي لم يعد يتعلق فقط بالسعي إلى الإمارة.
تقول الإحصائيات إن ما يقدر بنحو عشرة ملايين طفل، يموتون الآن سنوياً بسبب الفقر الشديد. وبقسمة العدد على أيام السّنة، يكون الحاصل 26,000 طفل يغادرون الدّنيا يومياً. وخلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، قضى 100 مليون طفل معذّب من شدة الفقر. وبشكل ما، تشترك البشرية كلها في عار التآمر على مقتل هؤلاء الأطفال، وبالانشغال عن سماع توسّلاتهم، والتغافل عن مشاهدة أيديهم التي تنزف آخر طاقتها في لحظة، وتنهدّ على الأرض في ارتعاشة مَوت أخيرة.
ويذكر تقرير أخير للأمم المتحدة أن هناك حوالي 200 مليون يتيم في العالم، يتركزون بشكل رئيسي في الدول الأكثر فقراً في جنوب العالَم. ويتوجب على هؤلاء أن ينبتوا وحدهم، هكذا مثل النباتات البرية، بلا رعاية ولا لمسة حانية. أما الشيء الوحيد الذي يتوافر عليه هؤلاء أكثر من كلّ الآخرين، فهو احتمال الموت المبكر أكثر من أيّ جماعة أخرى من نفس الفئة على سطح الكوكب. وهُناك الحُروب، والقتل بالتحكم عن بُعد، والمترحّلون المهجّرون الذين تضيق عليهم الأرض. وهُنا في بلادنا، ينقضُّ الرّعاة على الرعايا مثل الذئاب على الخراف، فقط لتبقى خِرافاً معدّة للذبح.
ثمّة قسمة العالم تزداد ظُلماً ونأياً عن العدالة. وما لم يصبح الأغنياء أقل غنى وأكثر عدداً، والفقراء أقل فقراً وأقلّ عدداً، فإنّ العالم لن يكون بخير. وليس قلّة شُكر ونُكراناً للنعمة، لكنّ الإنسانية ليست بخير. إننا لسنا بخير!

[email protected]