أفكار ومواقف

مؤسسة لتنظيم التجارة الداخلية

منذ العام 1988، دخل صندوق النقد الدولي على خط الاقتصاد، وفرض برنامج التصحيح الاقتصادي. واستجابة لشروطه، تم إلغاء وزارة التموين مطلع التسعينيات، باعتبارها لا تتماشى مع حرية السوق، من حيث أنها كانت تستورد لنفسها بعض السلع الاستراتيجية، كالقمح والشعير والأرز والسكر واللحوم وحليب الأطفال. كما كانت تدعم بعض السلع، وتسعير بعض السلع ومراقبة أسعارها، وبخاصة الغذائية منها.
عقد تحت وصاية صندوق النقد الدولي كان الأرحم بنا مما سبق ولحق من حكوماتنا. تلاه عقد وصاية انفلات السوق، وفقدان البوصلة في ظل حكومات منزوعة الولاية العامة، داهمتها الأزمات فانشغلت في إدارتها وبقيت أسيرة لها. وكانت السوق الداخلية إحدى ضحايا هذا الوضع المركب التعقيد، ما ترك آثاراً سيئة على معيشة الفئة الفقيرة وأطراف الفئة المتوسطة، ثم ما لبثت أن طالت كامل الفئة المتوسطة. وزاد الأمور سوءاً هزالة دخول هذه الفئات، فسارت أوضاعها الاقتصادية من سيئ إلى أسوأ.
مع توالي الأزمات، وتحولها إلى حلقة مفرغة أرهقت إدارة الحكومات المتعاقبة لها، يبدو غريباً إصرار الحكومات على عدم الالتفات إلى ممارسة دورها في تنظيم السوق على نحو جدي، وعدم إبداء إرادة حازمة في هذا الاتجاه وإناطة هذا الدور بمؤسسة رسمية بمستوى وزارة. لأن وزارة الصناعة والتجارة لا تستطيع أن تأخذ على عاتقها أداء هذا الدور بدون أن ينتقص من مستوى أدائها لدورها الواسع الذي تقوم به حالياً.
وإذا كنا ما نزال نخشى من الأجندات التي أوصلت البلد إلى ما هو فيه مما لا يسر أحداً، أو لا نجرؤ على استعادة الدور التنظيمي للحكومة، لارتباطه بالمسؤوليات السابقة لوزارة التموين التي تستفز أنصار السوق المنفلتة، فيمكن تسمية الوزارة “وزارة التجارة الداخلية”؛ فالمهم هو الدور الذي ستضطلع به الوزارة وليس اسمها. والدور المطلوب لها هو تنظيم التجارة في السوق المحلية، وليس المتاجرة أو الدعم أو تحديد الأسعار؛ أي كل ما يتصل بمتابعة الأسعار العالمية، وكلف الاستيراد، وتكاليف الإنتاج المحلي، ووضع التعليمات المنظمة لكافة أنشطة التجارة الداخلية، ومراقبة تطبيق تلك التعليمات، وضمان الأمن الغذائي كمياً ونوعياً وسعرياً، وإزالة العوائق أمام الإنتاج المحلي، وحماية المستهلك.
وإذا تعذر إنشاء وزارة لهذا الغرض، فلا أقل من إنشاء إدارة عامة، يكون لها مجلس إدارة مشترك من القطاعين الرسمي والخاص، يرأسه وزير الصناعة والتجارة، ولها إدارتها التنفيذية المستقلة، وتمتلك ما يكفي من الموظفين الذين يتابعون مجريات أداء الأسواق، والتزام جميع الأطراف بالتعليمات المنظمة للسوق. وقد تكون نواة هذه الإدارة العامة مديرية للتجارة الداخلية، تبدأ في وزارة الصناعة والتجارة لتتحول بعد سنة أو ثلاث سنوات، على الأكثر، إلى الإدارة العامة أو المؤسسة المطلوبة.
ومن الطريف لمن لا يعلم، أن التجار باتوا أكثر المطالبين بوجود جهاز متخصص مهتم بإدارة شؤون التجارة الداخلية، بعد أن ضاقوا ذرعاً بالهجوم عليهم. والمفارقة أن تنضم الحكومة إلى الهجوم على التجار، وهي التي تخلت عن مسؤوليتها في تنظيم التجارة في السوق المحلية. والمفارقة الأكبر أن الحكومة تمارس هجومها على التجار وهم ما يزالون يتحملون عنها حتى الآن، عبء حساسية المستهلكين المفرطة لارتفاع الأسعار. فهذه الحساسية هي من صناعة الحكومة، لأنها دون غيرها المسؤولة عن تدني الدخول لأغلب فئات المستهلكين.

[email protected]

تعليق واحد

  1. اسمعت لو ناديت فهيما !
    مقال رائع ورصين….. على الرغم من البساطة الظاهرية للعناوين التي تنتقي الكتابة فيها دكتور عاكف إلا أنها تنطوي على إحساس حقيقي بأوجاع الناس ومواطن الخلل في البنية التركيبية والاجرائية للدولة ومؤسساتها كما أنك أحيانا ترصد ما يفوته الآخرون في ظل هذا الصخب السياسي الكبير في المنطقة ، شخصيا أؤمن تماما بأن الاصلاح الحقيقي الشامل للقضايا الكبيرة يبدأ من اصلاح الحيثيات التي تبدو صغيرة أو عديمة الأهمية في ظل طموحات تغيير كبيرة ، ما تفضلت به من كلام يمثل وعيا محدد الارشادات وليس مجرد تعميمات أو كلام في الهواء ، ولكن كالعادة نحن القراء نشارك الكتاب والصحافيين أحلاما وردية على الورق فقط وأمام الشاشات، فكل ما يذكر في هذه المقالات بكمها الهائل من افكار وغمزات إثرائية وارشادية وانقاذية لأصحاب السلطات والنفوذ حقيقة أنه يشكل ذخيرة اصلاحية وخططا تنموية كاملة في بعض الأحيان ولكن (يا حسرتي ) حسب راي الدكتور ابراهيم فكله يجد طريقه للإهمال والتصريف تحت حكم أن المسؤول أكثر وعيا من مجرد صحفي أو كاتب يلقي بنظرياته علينا …. ولهذا فنحن نؤمن سلفا أن المسؤول المحلي يحمل حالة طلاق دائمة بينه وبين الصحافة كقوة مغيرة وفاعلة في خططه القادمة ويتعامل معها للأسف وكأنها نـد أو عدو يفتش ويراجع في أوراقه للنفاذ إلى العيوب والنقاط السوداء بدلا من التعامل بمنطق الشراكة في المصلحة الوطنية ……..ليس لنا – كالعادة – إلا أن نشاركك الدعوة والدعاء أن يهدي الله من يقرؤون هذه الأفكار ليخرجوا بأحسن منها!

  2. نعم لتنظيم الأسواق
    مقال جيد. أشارك الكانب رأيه في ضرورة تنظيم الأسواق من قبل الدولة ليس فقط في قطاع التجارة وانما كذلك في القطاعات السلعية والخدمية "الاستراتيجية" (بما فيها خدمات التعليم الخاص!). هذا يشكل برأيي الحل الجذري لمعضلة السباق الماراثوني بين الاجور والأسعار وما يتبعها من مطالبات قطاعية متجددة بزيادة الاجور، وما يستتبع ذلك بدوره من أعباء مالية مرهقة على الموازنة. السؤال المركزي: كيف؟ أقترح تقوية دور مديرية المنافسة في وزارة الصناعة والتجارة المسؤولة عن مراقبة المنافسة وتعزيزها في مختلف القطاعات والأسواق في المملكة وتحويلها الى هيئة تنظيمية مستقلة وقوية مع ادماج العديد من الهيئات الرقابية القطاعية الصغيرة فيها (كالنقل والطاقة والتأمين). للعلم هذا المقترح وارد في وثيقة "الأجندة الوطنية" وهو ينسجم مع الحلول التنظيمية المعتمدة على اقتصاد السوق.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock