مائة سنة من العار

ثقيل على النفس أن يشهد المرء، اذا كان من ذوي الرأي، مرور الذكرى المائة لوعد بلفور المشؤوم، المصادف يوم بعد غد، دون ان يدلي بدلوه في بئر هذه المناسبة المثيرة للآلام المبرحة، ويصعب عليه ان يكتم في حلقه على غصة حارقة، وهو يرى اليوم ان هناك من سيحتفل بالمئوية الاولى لهذا العار، لا بخجل وانما بفخر ليس في محله، بدلاً من المداراة على تلك الفعلة المشينة، والتواري عن أعين الضحايا الشهود الأحياء على مدى فظاعة الجريمة وجسامة الخطيئة، التي لم يقع مثيل لها في تاريخ الاستعمار الاوروبي الحديث.اضافة اعلان
لعل ما هو اشد وقعاً على العقل والقلب من ذكرى وعد بلفور نفسه، هو هذا الإصرار غير المفهوم من جانب الحكومة البريطانية على الاحتفال "بكل فخر" بهذه الجناية الكبرى بحق شعب دفع ثمناً باهظاً على فعلة لم يرتكبها، واستمرار الجاني في مقارفة سابقة "إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق" دون واعز من ضمير، أو حسّ بالمسؤولية الأخلاقية والقانونية والسياسية، رغم هول ما أدى اليه ذلك الوعد من نتائج وخيمة، ما تزال آثارها ماثلة للعيان، ناهيك عما جرّته من حروب ودماء وعذابات متراكمة على مر أجيال متعاقبة.
إذ في الوقت الذي يطالب فيه الفلسطينيون ببعض الإنصاف، وردّ شيء من الاعتبار لهم، سواء بالاعتذار، أو بدعوة الحكومة البريطانية إلى الاعتراف بدولة مستقلة لهم، ولو على الورق، تبادر رئيسة هذه الحكومة إلى دعوة بنيامين نتنياهو ألى لندن للمشاركة في احتفال خاص بهذه المناسبة، الأمر الذي يشكل في حد ذاته استخفافاً شديداً بمشاعر ملايين الفلسطينيين والعرب، إن لم نقل إهانة لهم (بالأحرى صفعة على الخد)، ثم يسألونك عن سبب الكراهية والتطرف والإرهاب، الذي يتغذى على مثل هذه الممارسات الغربية الكريهة.
لقد مات  بلفور وشبع موتاً، ولم يعد أي ممن عاصروه على قيد الحياة، إلا أن حكومة بريطانيا المفعمة بروح استعمارية بائدة، تريد أن تعيد إلى الذاكرة العربية ليس فقط فعلتها المشؤومة هذه، وإنما أيضاً غدرها بقادة الثورة العربية الكبرى، الذين تحالفوا معها في الحرب العالمية الأولى، غير انها رغم ذلك قامت بتمزيق بلادهم باتفاقية سايكس بيكو، ثم عمدت الى منح الاقلية اليهودية في فلسطين وعداً بإقامة وطن قومي لهم، وفتحت لهم أبواب الهجرة، قبل أن تضع تلك الحرب أوزارها، في موقف أقل ما يمكن وصفه بالخسة والنذالة السياسية.
لقد صدر وعد بلفور قبل أن يكون هناك انتداب بريطاني على فلسطين، بل وقبل أن يكون هناك هولوكوست، الأمر الذي يضاعف من حدة الشعور بالظلم لدى الضحايا وأحفادهم، ممن لم يفهموا سبب كل هذا الاستهداف البريطاني المركز، وكل هذا الإفراط في معاداتهم، وهم الذين لا ناقة لهم ولا بعير في الحرب الكبرى، التي لم يكن لليهود دور فيها، ومع ذلك دارت هذه الحرب على رؤوس العرب، ودفعوا فيها أثماناً غير مستحقة على الإطلاق، حتى لا نقول إن العرب عموماً كانوا فيها  الضحية الأولى بلا منازع.
إزاء ذلك كله نقول؛ إن الاحتفال الذي ستشترك فيه تريزا ماي رئيسة الحكومة البريطانية مع بنيامين نتنياهو بعد أيام، هو في واقع الأمر احتفال بمائة سنة من العار، يجلل سمعة تلك الامبراطورية التي لم تكن تغيب الشمس عن ممتلكاتها، يوم أن وضعت حجر الأساس لمعمار كارثة حلت بالشعب الفلسطيني دون ذنب له، وأسست لكل هذا الاضطراب المتواصل في هذه المنطقة التي باتت منذ تلك الواقعة اللعينة أكثر مناطق العالم تصديراً للعنف، ثم للإرهاب في نسخته الداعشية الأخيرة.
حسناً إن أحفاد الضحايا الأوائل، ممن شبوا عن الطوق، لن يدعوا هذه المناسبة تمر مرور الكرام، فهم سيشرعون من يوم بعد غد، ولمدة سبعة أيام، في إقامة اعتصامات وتسيير مظاهرات احتجاجية في مختلف المدن والتجمعات الفلسطينية، وفي بريطانيا أيضاً، لتذكير حكومتها بالفعلة السوداء، ومطالبتها بالاعتذار عما اقترفت بلادها في غفلة من الزمان، ومطالبتها بتصحيح جانب قليل من الخطأ الذي لا يغتفر، ألا وهو الاعتراف بحق الفلسطينيين بدولة لهم، عوضاً عن العناد وإثارة العداء، بإقامة الاحتفال البغيض.