مات خليل قنديل

مات صاحبي.
وحين يموت كاتبٌ مثل خليل قنديل على المفردات الجميلة كلها أن تخرج حاسرة الرأس في جنازته.
مات الحكّاء المرح، ابن “الدوايمة”، وابن “اربد” معاً. الرجل الذي ظلَّ على فطرته، ساخراً من كل شيء ومن كل أحد. عنيداً يرفض الانصياع لأي قاعدةٍ في الحياة .. ويعيش مثل حصانٍ شابّ.اضافة اعلان
مات صاحبي الذي لم يكن يخطِّطُ للموت أبداً.
قبل سنوات نشرتُ في زاويتي هذه مقالة قلتُ فيها إن على تلفزيوننا أن يزور الكُتّاب الكبار في بيوتهم ويسجل عنهم حلقات قبل أن يرحلوا، وضربتُ مثلاً بخليل وبالعزيز الياس فركوح اطال الله عمره، وبعد وقت التقيت بخليل فوجدته “حرداناً”، ثم ضحك ضحكته التي لا تشبهها ضحكة أحد وقال لي : “قرايبي زعلوا .. قالوا صاحبك بيفاول عليك” !
خليل واحد من أهمّ كُتّاب القصة العرب، رجل ضخم بقلب وحساسية طفل، لم يكن يجيد المكيدة والحِيَل، .. حين كنا نسهر خمسة أو ستة أشخاص يسمّيهم جمال ناجي “قلب الظلام” لنسج الخطط لانتخابات رابطة الكتّاب، في مزرعة سعد الدين شاهين النائية، كان خليل يجلس فقط ليستمع، ويسخر منا أو يعلق علينا، أو يدخن .. ثم يروح ليطمئن على صينية الدجاج بالفرن، لأنه لا يجيد المكر الانتخابي ولا يحبه، ويريد أن ينتخبه الأصدقاء فقط لأنه “كاتب” !
..
مات “الكاتب”.. صاحبي.
ومن لا يعرف “خليل” عن قرب، لا يعرف أنه كان حكّاء وراوياً شفهياً، لا يقل أهميّة عن كونه كاتباً، يسرد قصصاً لا تنتهي عن تفاصيل اللاجئين، وبيوتهم الأولى، والأمهات اللواتي يفقن في الليل ينادين على من بقوا هناك، ويناشدن الأولياء الصالحين العون، .. يحكي قصصاً لا يعرفها أحد عن “وشم الحذاء الثقيل”.. وما خلَّفه في الذاكرة، وفي الصدور.
يتحدث عن “إربد”، عن ليلها، وأقمارها، وقراها، عن صاحب الدكان وزبائنه، وبائع البالة، وفرع الرابطة، وصيدلية “محمود عيسى موسى”، يروي التفاصيل التي يراها في وجوه الناس بحنكةٍ ومهارة، ببالغ الحزن وبالغ المرح، كأنَّه يعرف كل حجرٍ هناك .. كأنَّه جاء مع المدينة.
مات الحكّاء .. ربما لأنَّ الحكاية ماتت.
..
كان كاتباً، ومثقفاً، ومغامراً يضع كلَّ شيء على حافة الشكّ .. لكنه كان في نفس الوقت قروياً مخلصاً لفكرة العائلة، ولتقاليد “الحَمولة”، لا تمرّ جلسة دون أن يعدّد مناقب والده، أو يعيد لنا قصة عن أثر أمّه في العائلة .. وفي مرّة كنا نتمشّى في بغداد سوياً، وإذا به يقف في الشارع فجأة، ثم يردد بصوتٍ مشتاق : “ الله يذكرك بالخير يا ام خالد” !
نظرت له بغرابة متسائلاً “مين ام خالد”، فردّ علي بنزق وهو يأخذ الولاعة من يدي ويدفعني “مين بدها تكون يعني .. مرتي” !
كان خليل أطيب من أن يوصف. وأثمن من أن يروح مِنّا هكذا .. خَطفاً !
سيتذكره جيل كامل من الأردنيين الذين قرأوا قصته “الرهان” في كتاب التوجيهي، وسيتذكره سائقو باصات عمان- إربد وهو يأتي من هناك كل صباح ويعود كل مغرب، قبل ان يستقر في عمان.
ستتذكره جدران الرابطة واجتماعات الهيئة الإدارية، سيتذكره قراء زاويته، وسكان قصصه، سيتذكره الجميع لأنه رحل قبل ان يخسر “الرهان”.
..
مات صاحبي خليل .
عرفت بالخبر في الخامسة فجراً، فجريتُ مسرعاً إلى الشرفة لأرى في السماء وشم الرجل الخفيف وهو يطير ..