علاء الدين أبو زينة
لن أجادل هنا في صحة أو عدم صحة الروايات الرائجة عن «المحرقة اليهودية» في ألمانيا النازية. لكن الحركة الصهيونية استخدمت دائمًا هذه المسألة لخلق نوع من الفرز الحاد في الغرب، بحيث أصبح من يُسمون «منكرو الهولوكوست» فئة تتعرض للنبذ على الأقل، إن لم يكن المحاكمة والعقاب. ويُعرّف إنكار «محرقة اليهود» أو «الهولوكوست» بشكل عام بأنه «أحد أنواع إنكار الإبادة الجماعية التي تعتمد على نظريات المؤامرة المعادية للسامية، والتي تؤكد على أن إبادة النازيين لليهود، والمعروفة باسم الهولوكوست، كانت أسطورة أو محض خيال أو مبالغة».
بطبيعة الحال، يخضع «إنكار الهولوكوست» للقوانين الأوروبية التي تحرم «معاداة السامية» كممارسة عنصرية. ويتم إقرار مثل هذه القوانين باطراد بدفع من جماعات الضغط اليهودية والصهيونية. وقد تطور هذا المفهوم ليشمل توجيه أي انتقادات لسياسات الكيان الصهيوني في فلسطين، حتى مع أنه يُعتبر قوة احتلال غير مشروع، ومؤخرًا نظام فصل عنصري.
تقول رواية الهولوكوست السائدة أن 6 ملايين يهودي تعرضوا للإبادة في المعتقلات النازية. ويُفترض أن هؤلاء اليهود مواطنون أصليون، في ألمانيا أو الدول الأوروبية التي وقعت تحت الاحتلال الألماني. وبعد نهاية الحرب العالمية وهزيمة ألمانيا، حوكم الذين اعتُبروا مسؤولين عن ذلك، وأعيد الاعتبار لليهود في أوطانهم الأصلية. لكن الصهيونية الاستعمارية ابتكرت «الشعب اليهودي» ليخالف كل تعريفات الشعب المعروفة. ليس هناك في العالم من يتحدث عن «الشعب الإسلامي»، أو «الشعب المسيحي» و»الشعب الوثني» أو ما شابه. ومع ذلك، يُحكى عن اليهود، كأتباع دين، مقابل العرب، كهوية عرقية قومية، أو الفلسطينيين كشعب عربي الهوية والمكان، متعدد الأديان والعقائد.
في المقابل، تسببت النكبة الفلسطينية في تشريد شعب يطابق التعريف، والاستيلاء على أرضه وممتلكاته، وإبادة أعداد كبيرة منه (وما يزال العمل جاريًا على ذلك)، ووقوع الذين تبقوا في الوطن تحت استعمار وحشي غاشم والبقية في المنافي. وعمل الكيان الصهيوني الأساسي هو إنهاء وجود الشعب الفلسطيني بالمعنى التاريخي، إن لم يكن الفيزيائي. وإذا تم احتساب عدد ضحايا النكبة، فهو كل أبناء الشعب الفلسطيني في الوطن والمنفى، بكل أجيالهم منذ الاستعمار البريطاني الوحشي الذي هيأ لتطهيرهم العرقي، وإلى جيل النكبة، والنكسة، وكل فلسطيني يولد حتى التحرر الحتمي. والأعداد بعشرات الملايين.
إذا كان هناك أسباب مسوغة للتشكيك في رواية الهولوكوست السائدة (هناك عدد غير قليل من الدراسات التي تشكك)، فإن النكبة الفلسطينية قريبة وتجري في بث حي ومباشر، ولا عوز بشأنها في الوثائق والشهود والمشاهد والأرقام والسرد التاريخي الموثوق. فلماذا لا تُعامل النكبة الفلسطينية كعملية إبادة جماعية يُمنع إنكارها؟
طرح هذه القضية الصحفي الكندي بول سالفاتوري، في مقال حديث بعنوان «لا ينبغي لكندا أن ترحب بمنكري النكبة: احتجاجاً على حدث كارولين غليك في تورنتو». وغليك هذه صهيونية متعصبة دعيت كضيفة للحديث في ما تدعى «المؤسسة الكندية للتعليم عن معاداة السامية». ويسميها سالفاتوري «منكرة النكبة»، ويقتبس من كتاب لها قولها: «إذا اعترفوا (الفلسطينيون) بصحة الجذور اليهودية للمنطقة، فإنهم سوفَ يُجبرون على الاعتراف بأن اليهود، وليس العرب الفلسطينيين، هم الشعب الأصلي للأرض…». وبذلك تردد غليك نفس خطاب الصهيوني الكبير، بنيامين نتنياهو، الذي يصر أيضاً أن العرب هم المستعمرون لأرض اليهود.
في الأيام الأخيرة، حث وزير في الكيان علناً على حرق بلدة فلسطينية –حرفيًا- وإبادة أهلها. ودعا آخر إلى شن «حرب نهائية» لإنهاء وجود الفلسطينيين مرة وإلى الأبد. ويُضاف هذا فقط إلى التاريخ غير المنقطع من الخطاب والسلوك الهادفين إلى الإبادة النهائية للفلسطينيين ككيان وشعب. ويستشهد سالفاتوري أيضًا بواحد من جمهور غليك في الحدث المذكور، الذي يقول للمحتجين على الحدث بصراحة وبلا ندم: «هؤلاء الذين يسمون أنفسهم بالفلسطينيين ليسوا مجموعة عرقية مميزة. إنهم محتلون استعماريون».
ويتم نشر هذه الرواية في تغييب منهجي للرواية الفلسطينية. ويكتب سلفاتوري: «وهذا يشجع العنصريين المعادين للفلسطينيين -سواء كانوا صهاينة أو مسيحيين إنجيليين… على الترويج لنظرة عالمية حيث الإرث المستمر للنكبة، من القصف الإسرائيلي وحصار غزة، إلى تدمير الزراعة الفلسطينية وإخلاء الفلسطينيين في الضفة الغربية، هو ببساطة «خيال» (ناهيك عن كونه إجراميًا)». ويضيف: «يجب أن يؤخذ إنكار النكبة على محمل الجد مثل إنكار الهولوكوست. ومع ذلك ، نادرًا… ما تتحدث وسائل الإعلام الرئيسية عن إنكار النكبة».
في الحقيقة، نحن أيضًا لا نتحدث عن «إنكار النكبة» كعمل يغطي على الأقل على الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في حق الفلسطينيين، ولا ندعو إلى محاسبة منكري النكبة قانونيًا – وعلى رأسهم جماعة الكيان وأنصارهم. بل إن هناك من يتعامل مع مرتكبي النكبة ككيان مشروع متوجب القبول، منكرًا بذلك النكبة بينما يخاف من إنكار الهولوكوست.
ينبغي الشروع في نشر وشرح فظاعة إنكار النكبة الفلسطينية، أو التغطية عليها، بما يعني المشاركة في إدامتها. بل ويمكن وأن يُسمى إنكار النكبة – لم لا؟- معاداة للسامية على أساس انتماء الفلسطينيين إلى الشعوب السامية.
المقال السابق للكاتب
إعدام الفلسطينيين، بالقانون..!