"ما زلنا معا"

كّنا مجموعة شباب أردنا العام 1997، اقتباس تجربة منظمة "اليونسيف" في إصدار بطاقات بريدية تُباع وتحقق ريعاً. عزمنا على نشر صور ورسومات من فلسطين وعنها، لنرسل عائدها إلى القدس بواسطة جمعية "حماية القدس" في عمّان، وكنّا نحلم بأن نقنع شركات من كل العالم لتعتمد بطاقاتنا في مناسباتها.اضافة اعلان
اتصلتُ بصديق لديه مكتب للتصميم والطباعة، وكان مصدر الصور المتاح حينها، قبل عصر الإنترنت، إصدارات إسرائيلية. واقترح أحدنا زيارة الرسامَين إسماعيل شموط وزوجته تمام الأكحل، فحددنا موعدا، وذهبنا فعلاً، 3 أعضاء وابنة أحد الأعضاء وعمرها عامان؛ شرحنا الفكرة، وأخذت تمام تتصفح أحد الكتب (الإسرائيلية) التي أتينا بها لنوضح المشروع، إلى أن رفعت رأسها وقالت: هذا بيتنا، أشارت لصورة من يافا، وقالت هذا بيتنا! كانت تلك مفاجأة!
كانا كريمين معنا، شاهدنا لوحاتهما ومرسمهما، وأعارنا الراحل إسماعيل شموط نسخا عن لوحات مختارة، فطبعنا وبعنا مئات البطاقات، وكنا نحلم بطباعة الملايين، إلا أنّ المشروع  تعثّر بسبب سفر مجموعة الشباب للعمل والدراسة.
قبل سنوات أعلمني الصديق مخرج الأفلام الوثائقية بشار حمدان أنّه يُعد فلما عن تمام وإسماعيل. ولم أر بشار صاحب الأفلام الجميلة، متحمسا لفلم قدر حماسته لهذا. عهدته غاضبا، ولكنه عند ذكر هذا الفيلم يصبح شفافا!
التقى إسماعيل طالب السنة الرابعة، وتمام طالبة السنة الأولى، في جامعة القاهرة العام 1954. عرفهما إلى بعضهما د. فوزي الغصين، والطالب ياسر عرفات، ليقيما معرضا مشتركا عن فلسطين. وبعد سلسلة قصص طريفة افتتح المعرض برعاية جمال عبدالناصر. ومن قصص الفيلم أنّه في العام 1964، قام نبيل شعث، القيادي الطلابي في الولايات المتحدة حينها، بتنظيم معرض لإسماعيل وتمام هناك، فاحتج طلبة وناشطون صهاينة، وأرسلوا إليهما هناك رسائل تهديد. ويوم المعرض لم يحضر أحد، وحين خرجا من قاعة الحفل اكتشفا أن ناشطي الحركة الصهيونية يرفعون يافطات تقول إن المعرض تأجل لإشعار آخر، وأُعلن موعد جديد واتخذت احتياطات منعت تكرار ما حصل.
تزوّج إسماعيل وتمام وظلا يرسمان فلسطين، ووصلت رسوماتهما العالم، وحازا جوائز دولية. رسما مشاهد الفرح في فلسطين، والبؤس في اللجوء والشتات، واحتفلا بالمقاومة بأنواعها.
قبل أعوام أعلمني أصدقاء من مجموعة شباب "البيارة"، الناشطين في أبوظبي، أنهم يساهمون في إنتاج فيلم "السيرة والمسيرة" من إخراج بلال اسماعيل شموط، ويحكي قصة نكبة فلسطين وحياة والديه، بواسطة لوحات رسماها عقب زيارتهما بيت اسماعيل في اللد، وبيت تمام في يافا، بعد 49 عاماً من تهجيرهما. كان تفاعل شباب اللجنة اليافعين مع التجربة لافتا؛ رووا كيف ذهبوا لمدن الضفة الغربية، ومغامراتهم في دخول "فلسطين 48" لعرض الفيلم، وكان تفاعلهم مع الفلسطينيين الباقين هناك وهم يجتمعون معا ويعرضون إسماعيل وتمام، مدهشاً، مفرحاً، مبكياً.
مؤخراً، أصدرت مؤسسة فلسطين الدولية كتابا بعنوان "قصة لكل لوحة"، أعدته تمام ويتضمن لوحات و"اسكتشات" غير مكتملة رسمها إسماعيل رحمه الله، على مدى نحو نصف قرن، موضوعها الطفولة والأطفال.
في نهاية فيلم بشار، تجلس تمام إلى طاولة قرب نافذة منزلهما في عمّان، حيث اعتادت واسماعيل تناول قهوة الصباح، تتذكر حمامتين واظبتا على الحضور إلى حافة النافذة، تتعانقان وتتناجيان، رسمتهما، وأسمت اللوحة "ما زلنا معا"! هي تطور مدرسة عربية خاصة في الفن التشكيلي، وتشعر أنّها لا تزال مع إسماعيل تنشر رسوماته سينمائيا، وورقيا، وإلكترونيّا. وتعلن مؤسسة فلسطين الدولية جائزة للفن التشكيلي باسمه. إذاً من طالبين في القاهرة، إلى عواصم العالم، إلى أنجالهما، إلى مخرج شاب، إلى "البيارة"، إلى "فلسطين الدولية"، ومعهما كثيرون آخرون، من أميركا اللاتينية إلى كفر كنا في فلسطين، ينظرون إلى لوحاتهما، ولسان حالهم يقول "ما زلنا معا".

[email protected]