"ما كان يهمنا من يتلصص علينا"

حين تتم المبالغة في فرض الرقابة وزيادة القيود تكون الحرية هي الضحية. والجدل الدائر حول حظر خدمات "بلاك بيري" في بعض الدول العربية، يركّز على حق الدول في حماية أمنها الوطني، لكنه يتوسّع في مسألة "حماية القيم الاجتماعية" إلى درجة التحكم في خيارات الناس، وانتهاك خصوصياتهم، وحقوقهم المدنية. والنقطة الأهم هنا هي مناقشة من يقول إن شركة "بلاك بيري" تمارس الازدواجية والكيل بمكيالين، من حيث إنها تسمح لدول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا مثلا بالدخول إلى شيفرة المكالمات والرسائل التي يجريها أو يقوم بها مشتركو هواتف "بلاك بيري"، وتتيح لهذه الدول مراقبتها، فيما هي تتمنع عن فتح هذه الشيفرة على دول أخرى كما تطلب دولة الإمارات والسعودية مثلا. هذا الحديث عن ازدواجية "بلاك بيري" يستحق التوقف لتوضيح أن مراقبة الاتصالات أصبحت حقا سياديا لأي دولة في العالم، وزاد من وجاهة هذه الأحقية تصاعد الجرائم والأحداث الإرهابية ووجود عناصر وجماعات خطرة في كل دول العالم تهدد أمن الدول وأمن الأشخاص العاديين والشخصيات المهمة، وهذا الخطر منذ جريمة الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 في ازدياد.

اضافة اعلان

لكنّ ما يهم المواطن العربي وهو يناقش هذا الأمر أن صون الحريات الخاصة والعامة في العالم العربي هشٌ إلى درجة أن انتهاك هذه الحريات من قبل السلطات الحاكمة، لا يحتاج، في كثير من الأحيان، حتى إلى تبرير أو سبب، وما يزال الاحتكام إلى القانون والقضاء وصيانة حقوق المواطنة غير راسخ الجذور، وعليه فإن إعطاء السبب سيعني مزيدا من التعدي السلطوي على تلك الحقوق المدنية والحريات الخاصة والعامة و"قصقصتها"، رغم هشاشتها وضيقها كما أشرنا. وقد أشارت صحيفة "الغارديان" البريطانية في تعليقها على حظر "بلاك بيري" بالقول إن ذلك يؤشر، في سياقه البعيد، إلى العلاقة المعقدة في العالمين العربي والإسلامي بين التكنولوجيا والبحث العلمي، مشيرة إلى أن من نتائج ذلك أننا لا نجد جامعة واحدة متطورة في العالم الإسلامي كله، وهو ما يكشف في الآن ذاته وكأن منطقة الشرق الأوسط تعاني حسب الصحيفة "رُهاب التكنولوجيا" أيْ التوجس منها والخوف من نتائجها.

إن فلسفة الاستهلاك والإعلان في عالم اليوم تقوم في عنصر أساسي منها على أن المشتري أو المستهلك والزبون له حرية الاختيار، وأمامه المجال لينتقي ويتطلّب ويفرض شروطه، ومن هنا فإنّ خيار الترفيه واكتساب التكنولوجيا وإرضاء نزعة الاستهلاك والتجريب عند الناس لا يجوز أن يتم فصلها عما يصاحب هذا كله من حرية ومجال لتعدد الخيارات. وعلى الحكومات أنْ تصل إلى هذه المعادلة الذكية المتوازنة التي تصون فيها الأمن وتمنع الجرائم والإرهاب من دون أنْ تصادر حريات الناس وتضيّق على حقهم في الاختيار، وتنتهك خصوصياتهم. وكما قال الكاتب السعودي عبد الرحمن الراشد :"لو أن الحريات الشخصية مقبولة وتحترم في منطقتنا ما كان يهمنا من يتلصص عليها، لكن بكل أسف حريتنا شبه معدومة بسبب التضييق المستمر".

[email protected]