ما وراء أهداف التضخم

ديفيد كوبهام*

إدنبرة ــ على مدى العقود الثلاثة الماضية أو نحو ذلك، أصبح القائمون على البنوك المركزية والأكاديميون على ثقة متزايدة من أن استهداف التضخم هو المفتاح إلى الحفاظ على استقرار الاقتصاد الكلي. ولكن يكاد يكون إثبات هذا مستحيلا، وقد استشف كثيرون من الأزمة المالية في عام 2008 أن السياسة النقدية لابد أن تركز على ما هو أكثر من أسعار السلع والخدمات. كيف إذن ينبغي للتفويض المنقح للبنوك المركزية أن يُبنى ويُنَظَّم بحيث يحافظ على تركيزها على التضخم المنخفض في حين يسمح للسياسة النقدية بمعالجة قضايا أخرى عندما يأتي الوقت المناسب؟اضافة اعلان
ومن الصعب تمييز إسهام استهداف التضخم في استقرار الاقتصاد الكلي لسبب بسيط: فمن المستحيل أن نعرف ماذا قد يحدث إذا تبنى البنك المركزي في بلد ما المسار المعاكس. ومع عجزهم عن مقارنة النتائج مباشرة، لجأ الباحثون إلى توظيف مجموعة متنوعة من الاستراتيجيات لتحديد تأثير استهداف التضخم، وقد وجدوا في الأغلب الأعم أن هذا التأثير كبير (ولو أنه يصبح ضئيلاً أو حتى منعدماً عندما تؤخذ نقاط انطلاق البلدان المختلفة في الاعتبار).
على سبيل المثال، تشير دراسة حالة للملكة المتحدة عن الفترة 1997-2007 ــ وهي فترة من أهداف التضخم الكاملة والاستقلال السياسي عن بنك إنجلترا ــ إلى تحسن كبير من نقطة انطلاق متواضعة للغاية. وكان التركيز على استقرار الأسعار مصحوباً بمعدل تضخم منخفض نسبياً (مقارنة بالماضي، ومقارنة باقتصادات أخرى كبرى)، ونمو قوي وقليل من تقلب الناتج.
ولكن على مدى هذه الفترة شهدت المملكة المتحدة أيضاً اختلالاً طويل الأمد في سعر الصرف، والذي كانت لجنة السياسة النقدية في بنك إنجلترا غير راغبة أو غير قادرة على معالجته في إطار صلاحياتها القائمة. كما فشلت لجنة السياسة النقدية في الاستجابة لأيٍ من نوبات النمو السريع الثلاث في أسعار المساكن والتي سبقت الأزمة المالية، بحجة أنها كانت بنيوية في طبيعتها ــ وناجمة عن انخفاض معدل التضخم وأسعار الفائدة منذ ثمانينيات القرن العشرين ــ وعلى هذا فإن الاستجابة النقدية لم تكن مناسبة.
وفي الفترة التي سبقت الأزمة، كان مجلس الاحتياطي الفيدرالي في الولايات المتحدة (المستهدف غير الرسمي للتضخم) أكثر التزاماً من لجنة السياسة النقدية بوجهة النظر التقليدية هذه ــ كان ملتزماً للغاية في واقع الأمر، حتى أنه لم يكن يخصص أي وقت أو موارد لتحليل تقلبات أسعار المساكن إلا بالكاد.
لذا، ففي حين عملت البنوك المركزية التي تستهدف التضخم جاهدة من أجل تثبيت توقعات التضخم في أسعار السلع والخدمات، فإنها لم تبذل أي جهد للتأثير على توقعات أسعار الأصول. والواقع أن النهج الذي تبناه آلان جرينسبان، رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي السابق، في التعامل مع السياسة النقدية، ساعد في إزالة مخاطر الجانب السلبي من خلال وضع حد أدنى لأسعار الأصول؛ غير أنه لم يحدد سقفاً للاتجاه الصاعد. وإذا كان لدى البنوك الكبرى استراتيجية احتياطية تمكنه من "الانحناء في مواجهة الريح"، فإن هذا كان ليؤثر على التوقعات ويعمل على تثبيت أسعار الأصول ولو جزئيا، وربما تخفيف ــ أو حتى تفادي ــ تأثيرات الأزمة المالية الأكثر ضررا.
والواقع أن فكرة إدماج التخوفات المتعلقة بأسعار الأصول في استهداف التضخم تظل تشكل مصدراً كبيراً للجدال، حيث يستشهد المعارضون بمبدأ تنبرجن: لو كان صناع السياسات يملكون أداة واحدة (سعر الفائدة) فلن يكون بوسعهم أن يلاحقوا أكثر من هدف واحد (استقرار الأسعار). ووفقاً لهذا المنطق فإن محاولات ملاحقة أهداف متعددة من شأنها أن تربك الأسواق المالية ووكلاء القطاع الخاص.
ولكن البنوك المركزية لاحقت أهدافاً متعددة في نفس الوقت، من دون جلب نتائج سيئة أو تدمير مصداقيتها. وعلى نحو مماثل، منذ عام 2008 كانت العديد من البنوك المركزية ــ تحت ضغط من الحكومات ــ تتفاعل على وجه التحديد مع تطورات أخرى في الاقتصاد الحقيقي (وخاصة البطالة)، بدلاً من الحفاظ على تركيزها الأحادي على استقرار الأسعار الطويل الأمد.
ويتضح هذا بشكل خاص في المملكة المتحدة، حيث دأبت الحكومة على دفع بنك إنجلترا على تقديم إعانات دعم الائتمان، وفي الآونة الأخيرة التوجيهات المسبقة، في محاولة يائسة لتحقيق التعافي الاقتصادي قبل انتخابات عام 2015. ونتيجة لهذا، جاءت قرارات بنك إنجلترا منسجمة مع المفاضلة القصيرة الأجل بين النمو والتضخم ــ بمعنى أنه كان يتخذ القرار بشأن الأهداف وليس الأدوات فحسب.
والآن تحتاج البنوك المركزية إلى تفويض معدل يتعامل مع استقرار الأسعار باعتباره الهدف الرئيسي في الأمد البعيد، في حين يسمح لصناع السياسات بملاحقة أهداف أخرى إذا اقتضت الضرورة. وعلى وجه التحديد، ينبغي للبنك المركزي أن يكون قادراً على التحرك ببطء لتحقيق استقرار الأسعار إذا رأي أن الاقتصاد الحقيقي ضعيف إلى حد غير مقبول، أو إذا هدد اختلال أسعار الأصول الاستقرار المالي ولم يكن من الممكن نزع فتيل هذا التهديد بسرعة من خلال أدوات الاقتصاد الكلي الحصيف الجديدة.
في إطار الترتيبات الحالية لبنك إنجلترا، إذا تحرك التضخم بما يتجاوز نقطة مئوية واحدة عن هدفه (في أيٍ من الاتجاهين)، فإن محافظ البنك ملزم بكتابة رسالة مفتوحة إلى وزير الخزانة يشرح فيها الانحراف ويقدم خطة لإصلاحه، بما في ذلك وضع جدول زمني متوقع.
إن الاختصاص المعدل لبنك إنجلترا ــ أو البنوك المركزية الأخرى التي تستهدف التضخم ــ من الممكن أن يأخذ هذا المتطلب إلى ما هو أبعد من هذا، فيحدد هدفاً أولياً طويل الأجل للتضخم يستطيع صناع السياسات أن ينحرفوا عنه إذا اعتُبِر ذلك ضروريا. وفي مثل هذه الحالات، لابد أن يكون محافظ البنك المركزي ملزماً بكتابة رسالة مفتوحة يشرح فيها قرار البنك، بما في ذلك إلى متى يتوقع إعطاء الأولوية لأهداف غير التضخم وكيف يتوقع أن تكون العودة إلى العمليات الطبيعية.
ومثل هذا الترتيب من شأنه أن يسمح للبنك المركزي برؤية مسؤولياته من منظور أوسع في سياق من الشفافية والمساءلة، ولكن على النحو الذي يحفظ مصداقيته في مكافحة التضخم ويمنع القرارات السياسية ذات الدوافع السياسية أو غير الملائمة.

*أستاذ علوم الاقتصاد في جامعة هيريوت وات.
خاص بـ"الغد" بالتعاون مع بروجيكت سنديكيت.