ما يخسره المواطنون

ليس بالإمكان أفضل ممّا كان، ولو وقعت جريمة قتل غداً -لا سمح الله- لباركت أن يهرع رئيس الوزراء أو نائبه، لكي تُملي عليه الجاهة الكريمة بنود صكّ عشائريّ يحقن الدماء للجد الخامس للأردنيين، فالحقيقة المُرّة في مجتمعنا تفيد أن فقه "منع الجرائم" أولى من "ترف" حقوق الإنسان والدولة المدنية! وأن "الجَلْوَة" والجاهة وشرب فنجان القهوة، أكثر قبولاً في المجتمع من ضمانات المحاكمة العادلة واستقلال القضاء.اضافة اعلان
وحقيقة أن الجاهات القادمة والجاهات المستقبِلة، تزهو بالمثقفين والمتعلمين والمسؤولين الحاليين والسابقين والمُستقبليين، لهو دليل واضح على أن المجتمع المدني -في أغلبه- ليس له أثرٌ في الواقع، وأن برامج التوعية وبناء القدرات والتدريب على مفهوم الدولة المدنية وسيادة القانون، كلها -وللعشرين سنة الماضية!- لم تُغيّر في سلوك الأفراد قيد أنملة.
كما أن الدولة -رعاها الله-، وتعليمها ومدارسها وجامعاتها وكتبها ومكتباتها، فشلت في أن تستبدل أيّ سلوك أو ممارسة مخالفة لمفهوم الدولة وسيادة القانون واستقلال القضاء. وبعد سبعين سنة من الخدمة، ظل قانونها قانونا ثانويا، لا يُشفي الغليل، ولا يُقيم سِلماً اجتماعياً، ولا يحمي بريئاً حيث تزِرُ وازرة وِزر أخرى، على مسمعٍ ومرأى من السُّلطات الثلاث بقضها وقضيضها، فالعشيرة ما تزال لأفرادها أكثر أماناً من الدولة، وقانونها أكثر نفعاً من قانون الدولة، وحمايتها العملية والمعنوية أكثر فائدة للناس من الدولة.
أفهم أن تحوّل المجتمعات وتغيير سلوكها عملية معقدة، تحتاج تغييرات اقتصادية واجتماعية جذرية؛ وأن عملية التحول فيها معاناة سيكولوجية كبيرة، ويبدو أن الأمر في آخر المطاف "حِسبة" لما يخسره وما يربحه المواطنون من حالة التحول للدولة المدنية. والواقع يُشير أن نتيجة هذه "الحِسبة" في ذهن المُواطنين أن التحول للدولة المدنية لا يوجد فيه ربح، وأن عزتهم ومناعتهم في العشيرة وليس في الدولة.
وعليه، فإنني أتساءل: ماذا نحتاج لكي يقبل الناس بمؤسسات الدولة القضائية والشرطية والأمنية، للتحقيق والتقصي وتأمين حقوق المُتهم باعتباره مُتهما حتى تثبت إدانته، خاصّة وأن صرح القضاء الأردني صرح يُرفع له العقال؛ لحياديته وشفافيته وعدله ونزاهته؟! ماذا يجب أن نقدم في المناهج والمدارس والجامعات ليعلو القانون وسيادته على الحاجة للانتقام؟ ماذا يجب أن نفعل ليقتنع الناس أن شرف وقيمة التشكيلات الاجتماعية؛ من الأسرة وحتى الدولة، هما في الامتثال لأحكام القضاء، والحرص على ضمانات المحاكمة العادلة للمواطنين، وأنه حتى القتلة والمجرمون لهم كل الحق في محاكمة عادلة، بما في ذلك ضمانات الدفاع عنهم أمام قاضيهم الحر النزيه؟!
يجب علينا مراجعة أنفسنا، دولة ومناهج تعليم ومؤسسات مجتمع مدني، فواضحٌ أننا في مجال ثقافة المواطنة وحكم القانون لم نحقق بعد ما نستحقه كأردنيين ومواطنين فاعلين، وليس من الأكيد أننا حتى على السكة الصحيحة لتحقيق أي تغيير فعلي في سلوك المجتمع المناهض لمفهوم الدولة الحديثة.
أسئلة برسم الإجابة من الناس والمجتمع الأردني والدولة ووزارة التربية والجامعات والمثقفين والمُتعلمين. وما لم نُقدم للناس معادلة ربح بتحولهم للدولة المدنية، وما لم ننهض بثورة سلمية على أي سلوك ضد مفهوم الدولة بطريقة تدريجية -ومتفهمة للوضع القائم حتى يتغير- وما لم تقف الدولة بصلابة لغايات تطبيق القانون وترسيخ سيادته وحماية استقلال القضاء، فإنني أبشركم أن الحال ستبقى على ما هي عليه، ولحفيد حفيد حفيد الأردنيين.