مثلث الرجعية العالمية الجديد

تحتاج مسألة من وزن عودة الرجعية العالمية لتصدّر المشهد السياسي الدولي، إلى بحث أعمق من مقال صحفي سريع، وإلى مراجعات نقدية وفلسفية أشد صرامة، ونظرة استشرافية واسعة لمآلات مثل هذا التحول الذي أخذ يعبّر عن نفسه بقوة أبلغ مما كان عليه في أي وقت مضى، منذ فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة في أهم بلد في العالم، بكل ما ينطوي عليه هذا الفوز من صعود دراماتيكي لقوى اليمين الأميركي ذي النزعة الانعزالية العنصرية المعادية للأقليات.اضافة اعلان
ومن المرجح، على نطاق واسع، أن يكتسب هذا التحول الذي يعزز نفسه بنفسه، والمبشر بعهد جديد من الرجعية العالمية الضارية، قوة زخم جديدة في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الوشيكة في أواسط العام المقبل، وفق أغلب التقديرات القائلة إن فوز اليمين الفرنسي، بل وربما اليمين المتطرف بزعامة ماري لوبين، بات شبه مؤكد، إن لم نقل تحصيل حاصل، جراء سلسلة من الأزمات والمتغيرات الاجتماعية المتلاحقة التي عصفت بأوروبا عموماً، وبفرنسا ذاتها على وجه الخصوص.
وإذا ما تيسر لليمين الفرنسي أن يكسب جولة الانتخابات الرئاسية المقبلة، وفاز فيها فرانسوا فيون، فإن العالم سيكون أمام مثلث يميني غير متساوي الأضلاع، قاعدته الولايات المتحدة من دون ريب، وضلعاه كل من روسيا وفرنسا. الأمر الذي من شأنه أن يخلق واقعاً دولياً غير مسبوق، تجر عربته ثلاثة خيول سباق شديدة التحمل للمسافات الطويلة (ترامب، وبوتين، وفيون) لا تبارى على مضمار تعرج عليه اليوم بعض الجياد التي لا ينعقد عليها الرهان.
وليست المسألة مجرد تنظير بين يمين ويسار وفق التعريفات الكلاسيكية الدارجة في المناظرات، ولا هي سفسطة فكرية أكل عليها الدهر، وإنما هي نقلة سياسية اجتماعية اقتصادية مركّبة؛ في الرؤى والمفاهيم والمبادئ والفلسفات، التي من شأنها أن تخلق تحالفات مصالح لا سابق لها، وأن تعيد تشكيل علاقات القوة المختلة أساساً، وأن تؤثر بصورة مباشرة على الصراعات الإقليمية، على نحو يصب في صالح الدكتاتوريات والاستبداد، خصوصاً وأن هذه القوى لا تقيم وزناً لحقوق الإنسان أو القانون الدولي والمنظمات الدولية.
لقد كان عالم ما قبل نهاية الحرب الباردة منقسماً على نفسه بين الشرق والغرب، أي بين معسكر اشتراكي وآخر رأسمالي، وكان واضح الخطوط والحدود والخطاب والمرجعيات، فيما كانت الرجعية بنسختها القديمة البالية في حالة تآكل وانحسار. أما في عالم اليوم، فنحن أمام اختلاط شديد في الهويات والألوان والأبعاد، حيث عاد اليمين بطبعة جديدة منقحة، ليمسك بناصية الموقف الدولي، وبزمام التطورات الكبرى، ويملي نفسه من ثمة على الشعوب المغلوبة على أمرها، كقوة رجعية غير قابلة للكبح في المدى المنظور على أقل تقدير.
ولعل بيت القصيد في هذا التحول الآخذ بالتبلور بسرعة نسبية كبيرة، ماثل في حقيقة أن روسيا الوارثة لأمجاد الاتحاد السوفياتي، ما عدا دعم حركة التحرر العالمي، ناهيك عن معاداته للإمبريالية والرجعية العالمية، تحولت هي ذاتها الى قوة رجعية مضافة إلى نظيراتها الصاعدة في أوروبا والولايات المتحدة. الأمر الذي قلب المعادلة من أساسها، ومنح الانقلاب الرجعي العالمي قوة دفع ذاتية جامحة، قادرة على تجاوز الموانع المقامة هنا وهناك بسهولة مفرطة.
في الروافد الأقل أهمية، المعمقة لمجرى التحول العالمي المتسارع نحو الرجعية والعنصرية، فإنه يمكن إضافة اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى الصورة الأشمل، كتعبير آخر عن اشتداد صعود اليمين في العالم. وهو أمر بالغ الأثر في شؤون وشجون هذه المنطقة المستباحة، التي تبدو فيها الرؤية والمصالح الإسرائيلية شديدة التماهي مع رؤى اليمين في روسيا وأميركا، ناهيك عن تداعيات هذه الرؤى مجتمعة على مجريات الحالة السورية تحديداً.
بجملة أخيرة، أحسب أننا في المنطقة العربية، بل وفي العالم بأسره، أمام منعطف جد خطر، تهدد مضاعفاته الدول والقوى والجماعات والأفراد، الأمر الذي تنبغي معه مراجعة المفاهيم البالية والافتراضات السطحية والاستنتاجات المتسرعة، حول تعريفات القوى التقدمية لماهيات اليمين واليسار والليبرالية، بما في ذلك تشخيص محتوى الدولة الروسية التي باتت قاعدة كبيرة من قواعد الرجعية العالمية، الآخذة في التحول إلى إمبريالية جديدة متوحشة.