رأي في حياتنا

مراهقون كبار!

“هذا المقال أهديه لأبناء رجل عجوز لا يغادر رصيفه، أمام مدرسة بنات ثانوية في عمان الغربية، حتى أيام الجمع!”
من أكثر المناظر التي تثير الحزن والاشمئزاز معا، في تحالف غريب لشعورين متناقضين، رجل على مشارف السبعين من عمره وربما أكبر، يرتدي ملابس لا تليق بعمره ولا بعمر جيلين ممن يسبقونه، يصبغ ما بقي على قيد الوجود من شعره وشاربه بألوان واضحة فجة، يقف على قارعة الطريق، يمارس أفعالا ويأتي بحركات لا تتناسب ووقار العمر، أو يتلفظ بكلمات تسيء له قبل أن تثير اشمئزاز من يستقبلها، أو بالأحرى من تستقبلها!
لنتحدث قليلا عن المراهقة المتأخرة، التي لا أقول إنها ظاهرة، بقدر كونها حالة إنسانية شاذة، تستحق الوقوف عندها قليلا، ليس من أجل التأنيب والعقاب والسخرية أحيانا كما يحلو للبعض أن يعبر عن ردة فعله. لكن أعتقد أنه من الأهمية بمكان أن نتحاور ونفهم بعض هذه السلوكيات الغريبة، التي يمارسها رجال كانوا في عمر ما، آباء صالحين ورجالا محترمين. أتساءل ويتساءل كثيرون معي، عن سبب لجوء أو لنقل هروب، وهذا تفسير استباقي، بعض الكبار عمرا وقدرا، إلى تلك الصورة المشوهة لنهاية رجل ربما كان يوما ما شجاعا ومضحيا ورائعا بكل المقاييس. 
لماذا يقرر هذا الرجل فجأة بعد انقضاء العمر في العمل، وتربية الأولاد وتعليمهم وتأمين ما أمكن من مستقبلهم، كحال غالبية آبائنا، أن يجرجر بقايا من بقاياه الشبابية شكلا ومظهرا و”أداء”، من خزانته التي لم تعد تحتفظ إلا بألوان معاطفها الغامقة، ورائحة التبغ العتيق؟ ماذا يريد الكبير أن يثبت لنفسه وللآخرين؟ من الذي كان وراء إقناعه بأن الشباب شباب الروح، ليست أكثر من مرهم جروح لا يداوي أكثر من سطح حروق القلب الذي يرفض أن يشيخ؟ هل المجتمع مسؤول وحده عن وصولهم إلى أرصفة الشوارع، وأمام مدارس البنات الثانوية؟ المجتمع الذي ربانا على صور نمطية لشكل الأم والأب والجد والبنت والولد. الزوج والحبيبة والطالب وسائق الدراجة. وزع على ذاكرتنا المعرفية ملابسهم وأنماط أشكالهم الخارجية، وحديثهم ورائحتهم وحتى الأمراض التي تليق بهم. المجتمع الذي لم يغلب نفسه بقراءة الخرائط المخفية تحت أدمة الجلد، توصله إما لكنز مدفون أو فخ مرصود!
أعتقد فيما يتعلق بالحالة الإنسانية المؤلمة التي نتكلم عنها اليوم، أن للأبناء والبنات دورا رئيسيا في مسلسل الضياع أو الانحدار، الذي يلعب بطولته أبوهم. أبناؤه قبل زوجته إن كانت على قيد الحياة، يتحملون أكبر جزء من المسؤولية في المرحلة الوقائية، التي تسبق الإصابة بالمرض؛ وكثير منا يغفل هذه النقطة للأسف الشديد. فحين يبدأ دور الأب بالتلاشي شيئا فشيئا، وكأن مفعول عطائه قد أصابه العطب. وحين يتحرر الأبناء من اعتمادهم الكامل على آبائهم، ويتعاملون مع جلباب أبيهم وكأنه الحبس الذي عليهم أن لا يعيشوا فيه، بل ويكرهون كل ما يذكرهم فيه، هنا يجد هذا الرجل نفسه وحيدا بلا مسؤوليات تقلق ساعات نهاره الطويلة، فمنهم من يتوجه للأعمال الصغيرة غير المجدية في أحيان كثيرة، ومنهم من يحشر نفسه في الخزانة إياها بجانب المعاطف الغامقة ويقرر أن يكتئب، ومنهم من يقوم بتصرفات لا تليق به ولا بتاريخه وعمره وكرامته.
أحترم كثيرا رجالا حافظوا على هيبتهم ووقارهم حتى آخر أيامهم، قرأوا كتبا كثيرة، اعتكفوا في الصلاة والعبادة، ساعدوا أبناءهم في تحمل مسؤوليات تربية الأحفاد وتدريسهم، أو قرر المقتدرون ماديا منهم على اكتشاف أسرار العالم في السفر والترحال. أحترم من صرح برغبته في الزواج بعد ترمله، لأنه إنسان مكتمل المشاعر والاحتياجات، وأحترم أبناءه الذين يتفهمون.
لكن من يحاول أن يقفز من قطار العمر، كمراهق يعود لحبيبته التي تبكيه على رصيف السكة الحديدية، لا منظره ولا قفزته المترنحة يدعوان لشيء آخر غير الألم والاشمئزاز.

تعليق واحد

  1. النصيحة
    لا احد يعرف منا ماذا يرصد له الزمن القادم لو كنت مكنانك لجلست مع الشيخ واجريت معه حوار وعلمت مجريات حياته قبل ان اكتب كلماتي وشكرا

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock