مساء الخير يا ديترويت

هذا المساء الموافق الأول من كانون الأول (ديسمبر)، وعند الساعة السادسة مساء منه، سأقول بقلب مفتوح، وأمل فسيح: مساء الخير يا ديترويت.. مساء الحب على 370 كم مربعا فقط! هي مساحتك المترامية كأكبر مدينة في ميتشيغان.. مدينة فاتنة تأسست العام 1701.اضافة اعلان
مساء البهجة يا مدينة روزا باركس؛ الخياطة الأميركية ذات الأصول الإفريقية، التي رفضت ذات مساء بارد -من كانون الأول أيضا،  لكنه في العام 1955، أن تتخلى عن مقعدها في الباص ليجلس راكب أبيض في أيام التفرقة العنصرية، وبسببها  حصل الأميركيون السود على حقوقهم كاملة.
مساء الحلم يا مدينة احتضنت مارتن لوثر كنغ، وألقى فيها –قبل واشنطن بشهرين- خطابه الشهير "لدي حلم".. مساء الوصل يا أول مدينة في العالم تصدر أرقام هواتف للأفراد منذ العام 1879 فقط!
ولعل تحيتي مخنوقة بدمعة كبيرة سفحتها في عمان على وداع الأحبة الجميلين الوديعين كملائكة بيضاء ناعمة، تتدثر بالشوق وتترقب الحلم القريب بعيون تتسع حدقاتها لوهج المستحيل.
مساء الخير يا ديترويت، أما عمان فقلبي المتلجلج بالشوق والقلق واللهفة والانتظار؛ ففيها لن ينام هذه الليلة ابني جرير في حضن والده الحنون كأم رؤوم، ولن يجد ريان ومغيرة هذه الليلة آذانا مصغية -بصبر الرجال- لثرثراتهما الطويلة الممتدة والمتشعبة في سائر علوم الكون والماورائيات!
مساء الدمعة المشتاقة لدفء أمي التي أبكاها سفري طويلا، وكأنها تودعني لآخر مرة. ومساء الغياب الشفيف الحامل حلما وأملا وتضحية ووفاء إلى نوال شقيقة تعب الروح وأخت شغاف القلب.
مساء العتب الذي لا يخبو على شتاء عمان الذي صار يأتي بردا ولا يلوح فيه المطر، ومساء "محنة الوحشة في صدر الغريب" في صور تتراءى موغلة فيها الروح بالنأي والاغتراب والإقصاء والنفي. ولها نقول: لم يعد للمطر طعم المطر، ولا للحب مذاق الحب. وهذه زفرة قلب مثخن بالنوى، وعبرة نفس ثوت في مرقد الهموم. وأنت تقولين: أنت لا تصلح لشيء ولستَ جديراً بالبقاء.
لا لوم بعد اليوم، ولا ندم على اندثار الأمنيات الغاليات، ولا لهفة على غياب كثير من وجوه كان القلب الطيب يستعذب بهاء حضورها؛ فلم يتبق لي ولأمثالي سوى أهزوجة يرددها اللسان المتعب كي يظل فَراش القلب الجميل حيا وبعيدا عن نيران الفناء.
ها هو المكان يتسع في مدينة الجبال الشامخة كخيول تتأهب لقتال، ولجلال يهابه الصمت، وتخشاه وخزات الذكريات الرحيمة والقاسية.
ضاقت رقاع المسرات وتباعدت المسافات بين الأحبة الذين يخبئون جوى أشواقهم في الصدور، ويحبسون زفراتهم في بهيم الليل، وينامون على أمل وعلى قلق، لكن الأسى يطبق يا عمان كاسيا الأشياء بلونه البنفسجي الرهيب، وما من باكين أو مترحمين يرنون إلى الاستئناس بحضور الإنسان النقي أو يتوسلون قدومه أو انبثاقه ولو طيفا زائرا. هي محض أمنيات!
ما كان طوته الأيام. والحاضر هشيم ورفات، وما هو كائن لا يكاد يبين،  فهل غدا القول مكرورا نجتره ببلادة وشرود حتى نكظم  جل آلامنا على كره وما نحن بملومين؟ أجف المداد وانعقدت الألسنة وتذرعنا بلغة العيون رسولا أمينا يترجم مكنونات صدورنا ولواعج نفوسنا، أم أن في الفم ماء؟!
أما برّحت بنا آهات التجربة السخينة، وأبهضتنا الأسرار وتعاقب السنون العجاف الآكلات سنابلنا الخضراء، وتفاصيل أحلامنا الغضة البهية، وطفولة خلفها العمر تتضور إهمالا وبؤسا في زوايا الماضي البئيس، ثم قذف بنا في أحضان سنين أشد قسوة فأمسينا أكثر هزالا وانحناء وذبولا.
والأيام دول..
فقف معي نبكي من ذكرى حبيب ومنزل. وها نحن أحببنا من شئنا ففارقناهم بأكباد حرى وبأعين تفيض من الدمع. وذهبنا في الحزن حتى منتهاه؛ ليسلمنا إلى دوامة الذهول، فأمسينا نتخيل ذات شتاء مشتمل بالكآبة من دفناهم من أحبتنا تحت أطباق الثرى ترشح قبورهم ماء غزيرا فيغرقهم ولا يستطيعون نجاة من موت آخر وافاهم، وهم أسرى أكفانهم البليلة.
مساء السلوان أي ديترويت.. واستودع الله في عمان لي قمرا.