ضيوف الغد

مساحات تعلمية

ماسة الدلقموني*

غرفة صفية سكنية اللون، تعمل حيطانها عمل المكيف في فصل الشتاء والتدفئة في فصل الصيف. فيها من المقاعد ما لا يتيح فراغا للحركة بمكان لا يتعدى المتر بمترين جلست ألملم كلماتي المبعثرة لأصيغ مقدمة المقال عن موضوع ملتقى مهارات المعلمين الذي تكمن في مفرداته أهم حاجات أبنائنا؛ توجيه كل الجهود لاستبدال الملل بالمتعة.
سرحت لدقائق في هذه المساحة الضيقة ووقفت عند ذلك اللوح الأبيض الصغير المعلق بحالة ترثى له فوق لوح الطبشور القديم، لوح أبيض لا يتعدى المتر ونصف بمتر، وتخيلت حصة أقوم بإدارتها. وللحظات وعلى غير طبيعتي التي تحاول إيجاد الحلول، وجدت نفسي أبربر في سري، «يتساءلون لماذا يمل أبناؤنا بالمدرسة اليوم! كيف لا! كيف لا!» وأنا أنظر إلى تلك المقاعد المرصوصة الواحد تلو الآخر والملاصقة للحائط على الجانبين وأتخيل نفسي أجلس على قطعة خشبية غير مدروسة الأبعاد و مرفقي يلامس ذلك الجبل الجليدي على يميني ومرفق زميلتي على يساري وأمامي مساحة بالكاد تتسع إلى دفتر وقلمين.
سرح خيالي لدرجة أني فجأة شعرت بمعالم وجهي في حالة انقباض لأجد أنفاسي تضيق فتوجهت لأفتح الباب المهترئ لأتفاجأ بزينته الخارجية حيث مجموعة من الأسماك زاهية الألوان تنعش تفكيري وتنقذه من السلبية لتعيدني في لحظات إلى التفكير الإيجابي الذي نحن وطلابنا اليوم في أمس الحاجة إليه. تمعنت في هذا الجهد البسيط المبذول -رغم الوصف العام لتلك الغرفة التلقينية – الذي أضاف ولو بأبسط الطرق روحًا ابداعية تقول علينا أن نجتهد رغم الظروف. أغلقت الباب مرة أخرى وعدت إلى الصف لأمسك ورقتي محاولة إعادة ترتيبه لينتمي إلى القرن الواحد والعشرين ويساعد المعلمين في خلق نوع من التدفق الحركي و العقلي للطلاب لتفعيل أساسيات التعلم الممتع الذي نرى اليوم العديد من الجهود المؤمنة به والمفعلة له رغم الظروف المعيقة.
وما أن بدأت بتحريك الأدراج ورسمها على الورقة حتى أدركت أن تحويل هذا المكان إلى مساحة تعلمية تعمها المتعة يتطلب أكثر من مخطط على ورق. مزقت الورقة وعدت إلى خيالي لأسمح لنفسي بلعب دور قائدة لهذا التغير، فأجمع المعلمين والإداريين في تلك المدرسة بحوار شيق وجلسات عصف ذهني متتالية لبناء مخطط عام للاحتمالات والمعيقات التي تقف في وجه تحويل هذا المبنى بما فيه من تفاعلات ليستفز المتعة لنخرج بخطة عمل تتناسب وحقيقة واقعنا ومواردنا المتاحة. فما لنا اليوم بهذه الأوضاع التي لا ذنب لأبنائنا بها إلا أن نوجه تفكيرنا نحو دائرة تأثيرنا. رأيت في خيالي فريقا كاملا متفقا على اتجاهه بتوحيد الجهود حول الرؤية المرسومة بلا استثناء لأي من عناصره.
رأيت فريقا يخصص وقتا وافيًا من أسبوعه كي يدمن على تطوره المهني والذي فيه سر التغيير الفعال المؤثر. رأيت فريقا يخطط كل حصة لتدمج الحواس وترتبط بواقع متعلمينا ولو بأبسط الطرق التي تستخدم الخيال وتقمص الأدوار وإعادة التدوير لتبتعد كل البعد عن الوحوش الصامتة التي تتجمد أمامها عملية التعلم؛ الخوف والملل والتوتر. بيئة يغلب عليها التقبل لاختلاف القدرات واحترام أساليب التعلم المختلفة.
في المقال السابق وبعنوان «لماذا يمل أبناؤنا بالمدرسة ؟» ورغم إعجابي بتساؤل الملتقى، تمنيت لو تمحور السؤال حول «لماذا يحتاج أبناؤنا إلى التعلم الممتع؟» لوضع المتعة كمسلمة في التعليم والانطلاق منها. وبعد زيارتي لتلك الغرفة الصفية تمنيت لو كان السؤال «لماذا نحتاج إلى الإبداع اليوم؟» لنوجه جهود الجميع في مختلف الأدوار للعمل على خلق حلول وإيجاد طرق لسد الاحتياجات الأساسية للسماح للمتعة بالتواجد بأصغر الغرف الصفية ولو بأقل التكاليف. نحتاج إلى الإبداع بالتواصل، الإبداع بالبناء والتخطيط القائم على واقع الحال والقدرات وإبداع في نقل المعارف والخبرات بأساليب تشاركية مفتوحة بين المعلمين والإدارات، إبداع في التحرك حول بعض سياساتنا العقيمة التي تقف عائقًا لتحدد سقف عقول أجيالنا القادمة. إبداع في.. إبداع في..

*أخصائية في التربية والتعليم

[jetpack-related-posts][/jetpack-related-posts]
زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock