مستويات القارئ.. مستويات القراءة

في اجتماع ضم مجموعة من الأشخاص ذوي العلاقة المباشرة بالثقافة والقراءة والإبداع والابتكار، مؤخرا، تم طرح سؤال عن أهمية الأدب. إذا كانت أكثر الكتب قراءة في المكتبات العامة اليوم هي الكتب الأدبية، فما الذي ستضيفه هذه القراءات إلى وعي القارئ، وما الذي ستعززه من خبرات لديه؟اضافة اعلان
السؤال سيكون أشبه بـ"الفخ" إن نحن انطلقنا من فهمنا للأدب على أنه "حكايات متخيلة"، أو "رومانسية منفلتة"، أو "خيال جامح" يؤسسه كاتب عن عالم متخيل غير قابل للتحقق!
لكن كتابا آخرين ونقادا، وقراء أيضا، يقترحون أن الأدب هو خلاصة التجربة الإنسانية مع الحياة، وهي الخلاصة التي شارك في تدوينها ونشرها كثيرون من شتى بقاع العالم، ما يجعلها خبرة وفيرة.
في العام 1948، طرح الكاتب الروسي الأميركي فلاديمير نابوكوف، في مقال له، جدلية القراءة الجيدة، أو القراءة الواعية، متسائلا عن الصفات التي تجعل من شخص ما قارئا جيدا، بينما تغيب عن آخر لتجعله سيئا أو ضعيف الحدس.
في سعيه لأن يصل إلى حدود مفهوم "القارئ الجيد"، صمم نابوكوف استبيانا يشتمل على عشرة أسئلة، وزعها على مجموعة من الطلبة، طالبا منهم اختيار أربع إجابات لتحديد هوية القارئ الجيد.
في تنظيره لـ"فن القراءة" يقترح نابوكوف على القارئ أن "يلاحظ التفاصيل المدبرة" في الكتابة، خصوصا أنه يؤكد أن "العمل الفني يهدف دائما إلى خلق عالم جديد"، لذلك فإن أول ما ينبغي علينا القيام به هو "دراسة هذا العالم الجديد عن كثب"، وصولا إلى دراسة صلاته بالعوالم الأخرى، وفروع المعرفة المختلفة.
وفق منظور نابوكوف، فإن الكاتب الحقيقي، وعلى عكس الكاتب الثانوي، هو "شخص يدير الكواكب"، وهو "لا يمتلك قيما تحت تصرفه، بل يتوجب عليه أن يبتدعها بنفسه"، ففن الكتابة هو عمل عديم الجدوى إذا كان لا يعني، في المقام الأول، "فن رؤية العالم كمجال خصب للخيال".
"القارئ الجيد هو ذلك الذي يمتلك ذاكرة، وخيالاً، وقاموساً، وحساً فنياً"، وفق تعريف نابوكوف، وبالتالي نستطيع أن نقول إنه القارئ الذي يلاحظ تفاصيل كثيرة في العمل الأدبي، وليس سياق الحكاية فحسب. إنه يصر على التفاصيل والسياقات وأنماط الشخصيات، لا على مبتدأ الحكاية ومنتهاها.
الأدب على الدوام، ظل يدور في محيط القراء الجيدين، محاولا تحفيز خيالاتهم، وربما استثارتهم وإغاظتهم، للتعبير عن مستوى تلقيهم للقراءة. لكن أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة ماكجيل الكندية ميرف إيمري تقر بأن "القراء السيئين هم الأكثرية"، لكنها تصطدمنا حين تؤكد أيضا أن "القارئ السيئ لا يصبح سيئا بالولادة، بل يتم تصنيعه ليصبح سيئا".
ربما يفتح هذا الأمر أمام تفكيرنا الرغبة باستعراض البيئات التي يدور فيها الإنسان العربي اليوم؛ من البيت إلى المدرسة فالجامعة، لمحاولة تكهن مستوى الوعي الذي يمكن لهذه البيئات أن تغرسه في النشء، ومدى إمكانية تدريبهم على الملاحظة والقراءة الواعية من أجل أن يصبحوا قرّاء جيدين. ستكون استنتاجاتنا محبطة، ولا شك، في هذا السياق، فجميعها بيئات غير ديمقراطية، ولا تساهم في تنمية الخيال والإبداع، لذلك، لا يمكن لها أن "تصنع" قارئا واعيا!
القراءة الأدبية ظلت على الدوام سؤالا مطروحا على الوعي النقدي للقارئ، الذي يستطيع أن يحاور النص، مستكشفا جميع "المطبات" التي يشتمل عليها، ليصبح بالتالي "واعيا" بالكتابة نفسها، وبالأدوات الواجب توافرها لهذا العقل من أجل فك رموز النص والسياق والشخصية في الكتابات الأدبية.