"مسرح" محمود شعلان

عندما قتل الجنود الإسرائيليون محمود شعلان، في 26 شباط (فبراير) الماضي، ادّعي الجنود، وصدّق شبان، أنّه كان ينفذ عملية طعن، فصدر ملصق يمجّده ويقول إنّه "منفذ عملية طعن بطولية". اضافة اعلان
أسمع عنه، ولا أعرفه. أتذكر أماندا ووليد وأراه فيهما. وأتذكر قريبة محمد أبو خضير، وكلماتها. وأتذكر سلواد وابنها الشهيد عروة.. والرابط بين كل هؤلاء هو الولايات المتحدة الأميركية، بل الأصح أنهم فلسطينيون.
تتحدث أماندا بعربية عامية مكسّرة عن والديها: "هدولة مجانين كيف بتركوا البلد.. خليهم هُمَّ في أميركا.. أنا مش طالعة". تخبرني أنّها ستبقى في فلسطين بعد أن تعلمت بعض اللغة العربية فيها.
أمّا وليد ابن العائلة المقدسية المشهورة، فيعمل نادلا في مطعم برام الله، ويحاول أن يبرم اتفاقية بين جامعته المشهورة في الولايات المتحدة والجامعة هنا. ويصطدم بالرفض الأميركي لكل ما هو فلسطيني.. ويبقى في بلده قدر استطاعته.
أستمع لفتاة تتحدث بلهجة أميركية لا أحسدها عليها؛ إذ أعتقد أنها أميركية الأصل. ثم ينقلب الحديث فجأة للعامية الفلاحية الفلسطينية، فتبدو توليفة غريبة كانت تدفعني للضحك في البداية، ثم صرت أكتفي بالابتسام. فالفلسطينيون الذين يشبّون في الولايات المتحدة يأخذون اللهجة الأميركية ويحتفظون بلهجة آبائهم الريفية الفلسطينية.
كنت أشعر ببهجة فائقة وأنا أقابل أمثال وليد وأماندا؛ الفلسطينيون الشبان الذين قرروا العودة للعيش في فلسطين، مع أنهم لم يعيشوا ولم يولدوا هنا. ولكن مع مقتل محمد أبو خضير، في رمضان العام 2014، بدأ قلبي يستجيب بطريقة مختلفة إزاءهم؛ يومها قابلت الطالبة العائدة من الولايات المتحدة لتتعلم بعض العربية، وأخبرتني بعد أن سألتها، كيف كان معها في ذلك المساء أبناء العائلة، ومنهم طارق ابن الخامسة عشرة، من إحدى مدارس فلوريدا الأميركية، يمرون في الشارع في شعفاط، ويرون محمد يجلس على الدرج، ثم حدث اختطافه وحرقه حيا من قبل المستوطنين، وعادت للولايات المتحدة ومعها المأساة.
في نهاية 2014، كان عروة حماد، ابن الخامسة عشرة، طفل آخر آت من الولايات المتحدة الأميركية، يُقتل في قرية سلواد. كان عروة يسأل وهو يناقش أساتذته، يتحدث عن الثورتين الأميركية والفرنسية ويربطهما بفلسطين.. وقتله الجنود.
لولا أن القصة يصعب تصديقها، ولولا آخرون لم يصدقوا، منهم آباء الشهداء، لظلّت قصة محمود أنّه ينفذ عملية طعن.
كان محمود موجوداً في فلسطين في السادسة عشرة من عمره، يريد أن يبقى في فلسطين عن سابق إصرار، يريد أن يصبح طبيباً جراحاً، يعيش هنا. يخبره أستاذه: "إن شاء الله ستكون من أشهر أطباء العالم". كان في طريقه إلى مدينة البيرة، لزيارة بيت عمته. وعلى حاجز "بيت إيل" الذي يكاد يكون أشهر حاجز احتلالي ينكل بحياة الفلسطينيين، وكما سيتضح من شهود العيان لاحقاً، ومن التحقيق والتشريح، طلب منه الجنود أن يلتف ويعود، ممنوعاً من المرور، رغم جنسيته الأميركية، ثم يعاجلونه بسبع رصاصات، ويمنعون الإسعاف الفلسطيني من مساعدته، ثم يعلنون أنه كان يهاجم الجنود.
أحد الذين رفضوا التصديق هو صيام نوارة، والد الشهيد الفتى نديم.
ساهم صيام وقاد تأسيس جمعية تسمى "مُساءلة"، تلاحق حوادث القتل والعنف الاحتلالي ضد الأطفال. وفي سبيل ذلك، باع ما يملك؛ من صالون حلاقة وسيارة، ويبحث عمن يساعده ليساعد الآخرين.
يخبرني صيام أنّ تكوين مسرح الجريمة أمر مهم جداً في كل جريمة؛ أي أن تعيد تشكيل المشهد، بالاعتماد على ما تيسر من كاميرات تصوير، ومن شهود العيان، وأطباء التشريح، وخبراء في مجالات مختلفة. هكذا فعل مع قصة ابنه الشهيد، وهكذا فعل مع قصة محمود شعلان، ليعلن هذا الأسبوع في مؤتمر صحفي، ومعه الطبيب السياسي مصطفى البرغوثي، ومحامٍ مختص، نتائج إعادة تكوين المسرح في حالة محمود.
لم يكن محمود في طريقه للطعن، من دون أن ينكر أحد حق المقاومة عليه، بل كان يزرع حياة ويصنع غداً وأملاً، وتم قتل ذلك.
لا يجب أن نقدم المسرح القانوني لهؤلاء الشهداء، بل تحتاج قصتهم لتوثيق أكبر، ولفضح الاحتلال، ولمواجهة الدول الكبرى الداعمة للاحتلال بما يحدث للفتية الذين يحملون جنسيتها ويحلمون بغد أجمل.