موفق ملكاوي
حتى اليوم ما يزال الأردنيون غير متسامحين مع كل أشكال التطبيع، ولا مع من يروجون له أو يسهلونه، فالمسألة بالنسبة إليهم ليست ظرفية أو عابرة، بل هي مبدأ تشاركوه مع إخوانهم الفلسطينيين المبتلين بأبشع احتلال على الأرض اليوم.
في الأيام القليلة الماضية، أرادت الطالبة في قسم هندسة العمارة بالجامعة الأردنية لينا الحوراني أن تذكرنا بهذه الثوابت، وأن تخط بالبنط العريض رفضها القاطع لأي تعامل مع هذا الكيان العنصري، أو اعتراف به، حين انسحبت من مشروع عالمي خاص بحلول التعافي من جائحة كورونا للمدن، اقترحته جامعة جون هوبكنز الأميركية، بسبب تمثيلها مع منافسة إسرائيلية عن منطقة الشرق الأوسط، رغم أن الجائزة تقدر بمليون دولار. حوراني، فسرت موقفها بالقول «منافسة من أصارعه على الوجود في الأصل إثبات لوجوده، وهذا مرفوض، لهذا قمت بالانسحاب».
مثل هذا الموقف يجعلنا نتأكد من أن قضيتنا عادلة وستظل حاضرة في الأذهان. ومع ذلك، فهناك مطبعون بيننا، يمتلكون «اجتهادات» غريبة أو مصالح واضحة لها مكاسبها غير المخفية.
نتفهم ذلك، فمنذ أن تشكل الكون لم يسجل التاريخ إجماعا بشريا كاملا على قضية واحدة، حتى لو كانت عدالتها مما لا يمكن الطعن فيها. قلنا إننا نتفهم ذلك، ولكننا بكل تأكيد لا نتسامح معه، ولا نحترمه، فمن يضعون أنفسهم في مواجهة إخوانهم يختارون معسكرهم بكل وضوح، وربما بكل صفاقة، وهو معسكر لا يتفق مع ما نناضل من أجله لكي يكون العالم أقل عنصرية وعدوانا، وأكثر أمنا وعدالة.
هؤلاء فئة بتنا نعرفها بالتجربة، وقد استطعنا على الدوام أن نعمل على تعريتها وإظهارها على صورتها الحقيقية، وبالتالي نبذها. لكن ما لا نفهمه هو حين نتحدث عن أحد هؤلاء المطبعين المدانين.
ثم يأتي أحدهم مدافعا عنه بدعوى سطحيته أو عبطه، رغم كونه شخصية معروفة، ويكمل في دفاعه بالقول إن ما فعلته هذه الشخصية ليس أكثر مما فعله آخرون أغرقوا البلد بالبضائع الصهيونية، ليتهمنا في النهاية بأننا انتقائيون في مقاومتنا للتطبيع، أو أننا نمتلك أجندات مخفية بحملتنا ضد أحدهم، أو بالشخصنة التي باتت التهمة الأكثر سهولة عند من لا يمتلك حجة.
التطبيع لا يمكن الدفاع عنه أو تبريره تحت أي مسمى، حتى لو كان العباطة، فكل اقتراب من العدو فيه تجاوز على دماء الشهداء والجرحى، وعلى حرية المعتقلين الذين تضج بهم سجون العنصري الصهيوني، وفيه أيضا، تفضيل للعدو على الشقيق، واعتراف ضمني أو صريح بحقه في ما اغتصبه من أرض وتاريخ.
ليس ذنبنا أن البلد يمتلئ بمطبعين ربطوا مصالحهم بوجود العدو وتفوقه، وسجلوا أسماءهم، بلا شرف ولا كرامة في لوحة الخزي والعار، وارتضوا أن يكونوا في قائمة الخونة التي بدأ التاريخ بكتابتها منذ يهوذا الإسخريوطي، مرورا بأبي رغال وابن العلقمي، ومير جعفر، وإيفيالتيس، ودونا مارينا، وبدران الذي باع أدهم الشرقاوي للإنجليز، وغيرهم.
أترون؛ الخونة دائما كانوا بيننا، وأثروا عميقا في تاريخنا ومجرياته، لكن ذلك التأثير لم يمنع من أن يكون لدينا أوقات صحو نتجه فيها إلى تحقيق كينونتنا، وأيضا لم يمنع من أن يظل بيننا أناس صادقون وثابتون على مبادئهم.
الخيانات الحديثة والتطبيع مع العدو والخضوع له، سنتجاوزها أيضا، ففلسطين ليست قضية موسمية، ولا هي أنشودة نحفظها للمناسبات العابرة، ولا أغنية للمزاودة، بل هي بوصلة نتعرف من خلالها على المبادئ الحقيقية، وعلى المعادن النفيسة.
يقول الإيرلنديون في أحد أمثالهم «من الأفضل أن يكون أمامك أسد مفترس على أن يكون وراءك كلب خائن»، والتطبيع هو خيانة واضحة وكاملة الأركان، ولا يمكن لنا أن نتساهل معها بمنحها أسماء براقة.