مطلوب تحرك عالمي لمواجهة الفقر

فهد قيصر* شهدت معدلات الفقر المدقع انخفاضا مطردا على مدى 25 عاما تقريبا، والآن، ولأول مرة خلال جيل واحد، تواجه جهود إنهاء الفقر أسوأ انتكاسة لها على الإطلاق. وتُعزى هذه الانتكاسة إلى حد كبير إلى تحديات رئيسية- تفشي فيروس كورونا (كوفيد 19) والصراعات وتغير المناخ- التي تواجه جميع البلدان، ولاسيما تلك التي تضم أعداداً كبيرة من الفقراء. ومن المتوقع أن تكون الزيادة في معدلات الفقر المدقع من العام 2019 إلى العام 2020 أكبر من أي وقت منذ أن بدأ البنك الدولي في تتبع معدلات الفقر على الصعيد العالمي بشكل ثابت ومتسق. وفي حين يشكل فيروس كورونا عقبة جديدة، فإن الصراعات وتغير المناخ ما برحا يزيدان من معدلات الفقر المدقع لسنوات في مناطق مختلفة من العالم. تقف المجتمعات المحلية والبلدان والقارات اليوم وجها لوجه أمام هذه التحديات الضخمة. ويلقي تقرير جديد للبنك الدولي بعنوان "الفقر والرخاء المشترك 2020: تبدل الأحوال" - الضوء مجددا على المخاطر التي تهدد جهود الحد من الفقر ويقدم توصيات للتعامل مع هذه الظروف الصعبة. لقد انخفض عدد الفقراء المعوزين انخفاضا كبيرا من 1.9 مليار في 1990 إلى 689 مليونا في 2017. ويشير التقرير إلى تراجع معدل الفقر المدقع في العالم بنحو نقطة مئوية سنويا في المتوسط بين عامي 1990 و2015، لكنه انخفض بأقل من نصف نقطة مئوية سنويا بين عامي 2015 و2017. وكانت الأسباب الرئيسية لهذا تباطؤ في وتيرة انخفاض الفقر واضحة لبعض الوقت، ولكن تأثيراتها قد تفاقمت الآن من جراء تفشي فيروس كورونا. ويوضح التقرير أن حوالي 40 % من الفقراء يعيشون اليوم في بلدان متأثرة بالصراعات، وأن الفئات الأشد فقرا تعاني من الصراعات العنيفة التي تؤدي إلى تدمير سبل كسب أرزاقهم وتحول في الوقت ذاته دون تدفق المزيد من الاستثمارات إلى مجتمعاتهم المحلية. على سبيل المثال، تضاعفت معدلات الفقر المدقع تقريباً بين عامي 2015 و2018 في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا نتيجة للصراعات التي تدور رحاها في سوريا واليمن. ويمكن أن تؤدي أعمال العنف، في أقصى أشكالها، إلى حروب طاحنة تأتي على الأخضر واليابس بحيث تزهق الأرواح وتدمر الأصول والموارد الطبيعية، تاركة إرثاً قد يستغرق التعافي منه سنوات طوال. ويشكل تغير المناخ خطرا مستمرا على جهود الحد من الفقر، وسوف يزداد حدة في السنوات المقبلة. وتقدر التحليلات الجديدة الواردة في هذا التقرير أن تغير المناخ سيدفع ما بين 68 مليونا إلى 135 مليون شخص إلى براثن الفقر بحلول العام 2030. ويمثل تغير المناخ تهديدا خطيرا بشكل خاص على بلدان أفريقيا جنوب الصحراء وجنوب آسيا - حيث يتركز معظم فقراء العالم. ويمكن أن تشمل تأثيرات تغير المناخ أيضا ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتدهور الأحوال الصحية، والتعرض لمخاطر الكوارث، مثل السيول والفيضانات، التي تؤثر على الفقراء والسكان عموما. ولعل تغير المناخ يشكل على وجه الخصوص أكثر التحديات إزعاجا للبلدان الصغيرة الأشد فقراً، على الرغم من أنه لا ناقة لها ولا جمل في هذه المشكلة. وتعد موجات الارتفاع التي يتسبب فيها الإنسان في درجات الحرارة العالمية ومنسوب مياه البحار كلها تقريباً نتاجا لمستويات استخدام الطاقة من قبل الدول مرتفعة الدخل والبلدان الكبيرة متوسطة الدخل التي تنمو بمعدلات سريعة. وقد شكلت الصراعات العنيفة وتغير المناخ خطرا على جهود الحد من الفقر لسنوات، لكن تفشي فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19) بات هو الخطر الأحدث والأكثر إلحاحاً. وسيكون تأثير تفشي فيروس كورونا على جهود الحد من الفقر سريعا وكبيرا. ففي عام 2020 وحده، من الممكن أن تؤدي هذه الجائحة إلى زيادة كبيرة في عدد الفقراء المدقعين بما بين 88 مليونا و 115 مليون شخص. ويؤدي تفشي فيروس كورونا إلى تعطل كل شي، من الحياة اليومية إلى التجارة الدولية. وتعاني الفئات الأشد فقرا من أعلى معدل للإصابة بالمرض ومن أعلى معدلات الوفيات في جميع أنحاء العالم. تزداد معدلات الفقر نتيجة لتفشي فيروس كورونا بين السكان الذين كانوا بمنأى نسبياً عن ذلك. ومن المرجح أن يعيش الفقراء الجدد في المناطق الحضرية وأن يكونوا أكثر تعليماً مقارنة بالفقراء المدقعين، وأكثر انخراطا في الخدمات غير الرسمية والصناعات التحويلية، وبدرجة أقل في الزراعة. ويوجد في البلدان متوسطة الدخل مثل الهند ونيجيريا 75 % من الفقراء الجدد. ويؤكد التقرير الجديد المعنون "الفقر والرخاء المشترك 2020" على أن الصراع وتغير المناخ سيتسببان في تكاليف بشرية واقتصادية هائلة، مشيرا إلى أن هدف خفض معدل الفقر المدقع في العالم إلى ما دون 3 % بحلول عام 2030، الذي كان معرضا بالفعل للخطر قبل ظهور فيروس كورونا، أصبح الآن بعيد المنال من دون اتخاذ تدابير سريعة وهامة وكبيرة على صعيد السياسات. إننا أمام لحظة غير عادية في الأزمة الحالية، إذ لم يسبق أن أصبح أي مرض خطرا عالميا بهذه السرعة مثل فيروس كورونا. ولم يسبق أن شهد العالم كذلك ارتفاع نسبة أشد الناس فقرا التي تعيش في أقاليم وبلدان متأثرة بالصراعات على هذا النحو غير المتناسب. وتشهد أنماط الطقس العالمي تغيرات غير مسبوقة بسبب النشاط البشري. وستؤثر استجابة العالم لهذه التحديات الرئيسية اليوم تأثيرا مباشرا على إمكانية تغيير الانتكاسات الحالية في جهود الحد من الفقر على الصعيد العالمي. ويجب أن يأتي إنقاذ الأرواح واستعادة سبل كسب الأرزاق على رأس الأولويات المباشرة. وقد تم بالفعل تنفيذ بعض السياسات اللازمة لتحقيق ذلك، مثل أنظمة الحماية الاجتماعية. على سبيل المثال، تشهد البرازيل وإندونيسيا جهودا لتوسيع نطاق برامج التحويلات النقدية القائمة. وبالرغم من أهمية التصدي لفيروس كورونا، لابد أن تواصل البلدان العمل على تذليل العقبات القائمة التي تحول دون استمرار الحد من الفقر. ويقدم تقرير "الفقر والرخاء المشترك 2020" توصيات بشأن اعتماد نهج تكميلي ذي مسارين: الاستجابة بفعالية للأزمة الملحة على المدى القصير مع الاستمرار في التركيز على مواجهة مشاكل التنمية الأساسية، بما في ذلك الصراعات وتغير المناخ. سد الفجوات بين تطلعات السياسات وتنفيذها على الأرض في كثير من الأحيان، توجد فجوة واسعة بين السياسات كما تتوخاها الحكومات من جهة، وتنفيذها في الواقع العملي من جهة أخرى، وبالتالي بين ما يتوقعه المواطنون بحق وما يواجهونه يوميا. ويمكن أن تكون التطلعات التي تتوخاها الحكومات في السياسات جديرة بالثناء، ولكن من المرجح أن يكون هناك تباين كبير في مدى إمكانية تحقيقها، والفئات التي تستفيد منها. فعلى سبيل المثال، على المستوى المحلي، قد لا تتمكن الفئات الأقل تأثيرا في المجتمع المحلي من الحصول على الخدمات الأساسية. وعلى الصعيد العالمي، ستتجلى المخاوف المتصلة بالاقتصاد السياسي في ما تحصل عليه الدول الغنية والفقيرة من الإمدادات العالمية المحدودة من المعدات الطبية. ومن الأهمية بمكان بلورة إستراتيجيات تنفيذ يمكنها أن تستجيب بسرعة ومرونة لسد الثغرات. تعزيز التعلّم وتحسين البيانات لا يزال هناك الكثير من الأمور غير المعروفة عن فيروس كورونا المستجد. وقد طغت السرعة والنطاق اللذان أثرا على العالم على أنظمة الاستجابة في البلدان الغنية والفقيرة على حد سواء. وكثيرا ما تأتي الاستجابات المبتكرة من المجتمعات المحلية والشركات التي قد تكون لديها فكرة أفضل عن المشاكل التي ينبغي أن تحظى بالأولوية وقد تتمتع بشرعية محلية أكبر لبيان القرارات الصعبة وتطبيقها مثل متطلبات البقاء في المنزل. وكلما تعلم الجميع من بعضهم بعضا بشكل أسرع، عمت الفائدة على الجميع. فعلى سبيل المثال، تعزى استجابة جمهورية كوريا التي لاقت استحسانا على نطاقا واسع في مواجهة فيروس كورونا في جانب منها إلى الجهود الجدية للتعلم من "تجربتها المؤلمة" عند التصدي لفيروس كورونا المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية في عام 2015. الاستثمار في التأهب والوقاية ربما بدا تكرار استخدام المثل القائل "درهم وقاية خير من قنطار علاج" أمرا مبتذلا، ولكن في اللحظة الحالية فإن العالم يتعلم بالتأكيد هذا الدرس مرة أخرى، لكن بالطريقة الصعبة. وغالبا ما تكون المنافع السياسية للتدابير الوقائية متدنية، إذ لا يتصدر دورها في تفادي الكوارث عناوين الأخبار في وسائل الإعلام كما كان منتظرا. ومع مرور الوقت، يمكن للسكان الذين لا يعانون من الكوارث أن يشعروا بالرضا عن أنفسهم، على أن يُفتَرضوا أنهم قد تجاوزوا هذه المخاطر أو أن بإمكانهم التصدي لها بسهولة إذا حدثت. ويذكرنا تفشي فيروس كورونا، إلى جانب تغير المناخ والصراعات الدائمة، بأهمية الاستثمار في تدابير التأهب والوقاية على نحو شامل واستباقي. توسيع نطاق التعاون والتنسيق يتطلب الإسهام في المنافع العامة والحفاظ عليها تعاونا وتنسيقا على نطاق واسع. وهذا أمر بالغ الأهمية لتشجيع التعلّم على نطاق واسع وتحسين الأسس المستندة إلى البيانات في وضع السياسات، وتكوين شعور بالتضامن المشترك أثناء الأزمات وضمان أن تكون الخيارات السياسية الصعبة التي يتخذها المسؤولون جديرة بالثقة. وأخيرا، يجب أن تبدأ الاستجابات الفعالة بالإقرار بما يجعل هذه التحديات، ليس فقط مختلفة وصعبة، ولكن ذات أهمية كبيرة بالنسبة للفقراء. وسيخلق عدم التحرك على نحو شامل وعاجل تحديات أكبر في المستقبل. رغم أهمية التصدي لهذه الصدمات في الوقت الراهن، يجب أن يكون هناك تركيز دؤوب على جدول أعمال التنمية الجاري تنفيذه حاليا لتعزيز النمو الشامل، والاستثمار في رأس المال البشري والأصول الإنتاجية وحمايتها، وذلك إذا أرادت البلدان مواصلة الحد من الفقر. ولكن وضع حد لهذا التبدل الهائل في جهود الحد من الفقر الذي شاهدناه مع تفشي فيروس كورونا أمر ضروري وممكن. لقد حدث ذلك في الماضي في مواجهة ما كان يُنظر إليه في ذلك الوقت على أنه تحديات لا يمكن التغلب عليها – مثل القضاء على الجدري، وإنهاء الحرب العالمية الثانية، وإغلاق ثقب الأوزون، وسيحدث مرة أخرى في المستقبل. من هنا، لابد أن تتعهد بلدان العالم على وجه السرعة بالعمل معا، والعمل بشكل أفضل - وخاصة الآن، وعلى المدى الطويل. *هيئة الأمم المتحدة للمرأةاضافة اعلان