معركة التأويل

ثمة ضلعان متوازيان يستند إليهما التيار المتشدد في العالم العربي والإسلامي اليوم. الأول، هو الواقع السياسي والمجتمعي، المسكون بحالة الضعف والشك لدى نسبة كبيرة من المسلمين، وتحديداً السُنّة (ومن هنا تبدو أزمة الإسلام السني)، مرتبطا ذلك بالفراغ الاستراتيجي العربي من جهة، وبالأزمة البنيوية الكبرى للدولة القطرية العربية من جهة ثانية، وبتنامي النفوذ الإيراني على وقع صعود المسألة الطائفية من جهة ثالثة.اضافة اعلان
أما الضلع الثاني، فهو المرتبط بالموروث الفقهي والفكري والروحي السائد في أوساط عريضة وواسعة من المجتمعات العربية. وذلك مرتبط بمفاهيم دينية وفتاوى وأحكام فقهية، وفكر ديني-سياسي لم يتم تطويره وتنقيحه بصورة كافية، ومزاج ديني أصبح يميل إلى الجانب المحافظ والمتشدد من الفقه والفكر أكثر خلال العقود الأخيرة.
لم يأت تنظيم "داعش" في الفتاوى والأحكام الفقهية التي يتبناها، بجديد خارج المدونة الفقهية الإسلامية. ولو عدنا إلى كتاب العمدة المعتمد لدى التنظيم لمؤلفه أبي عبدالله المهاجر، شيخ أبي مصعب الزرقاوي، "من فقه الجهاد" (أو "فقه الدماء" كما يطلق عليه)، سنجد أنه من الغلاف إلى الغلاف لا يخرج عن كلام أئمة المذاهب الفقهية والعلماء الكبار في التاريخ الإسلامي، بالرغم من أن الكتاب يطفح بالدم والتكفير واستباحة المدنيين والأبرياء، والتوسع في فتاوى القتل والذبح.
بالطبع، هي قراءة انتقائية للمدونة الفقهية، الهدف منها إيجاد التبرير لأيديولوجيا دموية؟ صحيح تماماً. وبالضرورة أيضاً جزء كبير من هذا الفقه يتناقض مع الفهم العام لدى المسلمين لدينهم وتاريخهم. لكن ذلك لا ينفي أن هناك مساحة واسعة من التراث الإسلامي والفقهي والأحكام، بحاجة إلى غربلة حقيقية وإلى تجديد؛ وهناك مفاهيم بحاجة إلى الاشتباك معها لتنقيحها وتحريرها من قبضة التيار المتشدد؛ وهناك أحكام كثيرة يساء تطبيقها وتفسيرها وتأويلها. ما يعني أننا أمام معركة حقيقية كبرى في العالم العربي والإسلامي اليوم، هي معركة التأويل وتحرير الدين والمسجد والمدرسة من قبضة التيار المتشدد.
لا يمكن إنكار أن هناك جهوداً بذلت، وما تزال، مهمة وكبيرة ونافعة في تجديد الفقه الإسلامي. ولو عدنا إلى ما كتبه بعض العلماء، لوجدنا بذورا لحركة إصلاحية دينية كبرى، لكنها لم تجد التربة الخصبة المناسبة لها، مثلما حدث من قطيعة تاريخية مع مدرسة محمد عبده والإصلاح الإسلامي الحديث.
هنا يصبح السؤال: لماذا، إذن، لا يجد التيار الإصلاحي التجديدي أذناً صاغية، ولا تأثيراً كبيراً في أوساط عشرات الآلاف من الشباب الذين يذهبون إلى التيارات المتشددة؟ هذا سؤال من المفترض أن يأخذ حيزاً مهماً وأساسياً من تفكيرنا، وأن نصارح أنفسنا بالأخطاء والاختلالات التي حدثت.
بالطبع، هناك جملة من الأسباب، لكن أغلبها موضوعي وواقعي، وجزء كبير منها مرتبط بالواقع السياسي اليوم الذي يدفع المجتمعات والشباب نحو الراديكالية السياسية، ويكون الدين فيه مجرد غطاء أيديولوجي لهذه الظروف القاسية؛ فهذا التيار المتشدد هو ابن شرعي للواقع العربي اليوم، لكنه في الوقت نفسه ابن غير شرعي للإسلام. لذلك، لا بد من إعادة تقييم الجهود الفقهية والفكرية المبذولة لمواجهة التطرف والإرهاب.
ذلك يقتضي وجود خطاب إسلامي يمتاز بالإصلاح والتجديد والاعتدال، يواجه التيار السابق على صعيدين: الأول، فقهي وديني وفكري. والثاني، سياسي؛ أي أن يقدم خطاباً يكشف حجم الكارثة المترتبة على ما يقوم به التيار الأول على المسلمين والإسلام، ويدفع بالشباب إلى الاتجاه الصحيح للتغيير والإصلاح. ومن دون وجود هذا التيار الإصلاحي الذي يملأ الفراغ، سيجد الاتجاه المتطرف أنصاراً ومؤيدين ومتعاطفين.