أفكار ومواقفرأي اقتصادي

مفارقة المؤهلات وسوق العمل

د. يوسف منصور
يميل البعض، عند تحليل مشكلة البطالة في الأردن، إلى إلقاء اللوم على القوى العاملة نفسها، وخاصة خريجي الجامعات؛ حيث يدعي بعض النقاد والمحللين أن التدريب الأكاديمي الذي يفهمه معظم الناس على أنه الشهادات أو التخصصات الأكاديمية التي يدرسها الشباب الأردني لا تتناسب مع طلب السوق من هذه الشهادات. كمثال، غالبًا ما يسمع المرء عبارة تشير إلى وجود وفرة في العرض لشهادات الهندسة، وبالتالي هنالك بطالة مرتفعة. إذا، سبب البطالة هو كثرة الشهادات وليس شُح المشاريع والوظائف.
للأسف، لا يتحدث إلا مجموعة قليلة من المُعلقين عن جودة التدريب أو التعليم (بغض النظر عن مجال الدراسة) الذي تم تلقيه من قبل الطلبة كسبب لعدم توظيف الخريجين الجدد. رغم أنه أصبح معروفا وعلى نطاق واسع أن مهارات العمل الثلاث الأكثر أهمية (التفكير التحليلي النقدي، والقدرة على التواصل، والعمل الجماعي من خلال فرق) لا يتم التدريب عليها في معظم الجامعات والمدارس العامة في الأردن. وفي الواقع، فإن جودة التعليم، وليس نوعية التعليم، هي التي تجعل توظيف هؤلاء الخريجين أقل جاذبية لأصحاب العمل.
ومع ذلك، اكتسبت حجة عدم التوافق بين الشهادات والطلب في سوق العمل شعبية في السنوات الأخيرة، وأصبحت تطلق مرارا حين التحدث عن معدلات البطالة المرتفعة (23 % و48.5 % بين الشباب). وإذا عدنا بالذاكرة قليلا الى الوراء، تعيد حجة عدم التطابق هذه إلى الأذهان حجة “ثقافة العيب” التي تم إطلاقها في منتصف التسعينيات وهيمنت على حوار وخطاب البطالة لأكثر من عقدين من الزمان، وما يزال البعض يستخدمها على الرغم من أنها اندثرت في الغالب ولكن لم تمت كليا.
ادعت ثقافة العيب أن الأردنيين يرفضون العمل في مهن عدة بسبب محتوى الكبرياء والتعالي لديهم، ما يجعلهم يخجلون من القيام ببعض المهن فيتركونها للعمالة الوافدة ويقبلون أن يكونوا متعطلين عن العمل طواعية. وبالطبع، لا يمكن لصانع السياسات الاقتصادية والاجتماعية أن يحل مشكلة البطالة مع وجود ثقافة العيب لدى هذه القوة العاملة الفخورة. ورغم أنه لم يكن هناك دليل بحثي أو ميداني يدعم وجود هذه الظاهرة، فقد حظيت الحجة بشعبية عريضة بين صفوف المسؤولين ومحلليهم لأنها رحّلت مسؤولية البطالة المتزايدة من الحكومة إلى المحكومين. كما رأى بعض أصحاب العمل فيها تبريراً مناسباً لتفضيلاتهم في التوظيف لعمالة أجنبية غير رسمية وأقل كلفة. حتى القوة العاملة، وخاصة الشباب الذين غدوا يتوقعون الحصول على وظيفة مكتبية حكومية كما حصل للكثير من أقرانهم، رأوا فيها حُجة مواتية تبرر رفضهم للعمل بانتظار وظيفة حكومية ببريستيج كبير وجهد قليل. وهكذا أصبح هذا الادعاء غير المدعّم بالحقائق مُحببًا لدى الغالبية.
تلقي كلا الحجتين بعبء البطالة وأسبابها على عاتق القوة العاملة، ويتم من خلالهما تجاهل دور لاعبين مهمين وهما القطاعان العام والخاص. ناهيك عن أن القطاع العام كان يمكن أن يقلل من شهيته لتوظيف العمالة على مدى العقود الماضية ليساعد على دفع وتحويل الطلب على الوظائف نحو القطاع الخاص. علاوة على ذلك، كان من الممكن تغيير السياسات التي لها تأثير سلبي لتحسين الوضع في سوق العمل، مثل إزالة قرارات تجزئة سوق العمل (وهو أمر يحتاج لمعالجة مطولة) والفرمانات المتتالية غير المدروسة وأمور أخرى.
أما بالنسبة للقطاع الخاص، فهناك مجال واسع لوضع جهود تحسين الطلب. فالقطاع الخاص تهيمن عليه الشركات الصغيرة التي تشكل أكثر من 96 في المائة من الشركات، وتوظف 60 في المائة من القوة العاملة وتسهم بنسبة 24 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي -مقارنة بـ70-80 في المائة في اقتصادات الدول المتقدمة.
لكي يتغير وضع سوق العمل، يجب أن ينمو القطاع الخاص ويزدهر لجذب الأردنيين بعيدًا عن فرص العمل الحكومية. أيضا، يعاني الأردن من “الوسط المفقود” -نقص العمالة شبه المهرة، لذا لا بد من توفير أنواع التدريب المتخصصة. كما أن هناك عددا قليلا من الشركات المتوسطة الحجم، ويلاحظ من خلال المسوح الميدانية أن الشركات الصغيرة لا تنمو لتصبح متوسطة الحجم بسبب قلة التمويل الرسمي الذي بدوره يشجع على نمو سمة الاقتصاد غير المُنظم.
علاوة على ذلك، لا يقتصر الأمر على أن القطاع الخاص لا يخلق وظائف كافية فحسب، بل إنه لا يخلق ما يكفي من الوظائف عالية الجودة، ولأن الأفضل والأذكى من العمال قد انتقل إلى دول الخليج تجد الشركات صعوبة بالغة أحيانا في العثور على عمال أردنيين ملائمين. وتميل القطاعات الواعدة مثل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمستحضرات الصيدلانية، وغيرها، التي تواجه تحديات التوسع إلى الانتقال إلى أماكن أخرى مثل دبي والمملكة العربية السعودية مؤخرًا، حيث العوائق أقل والأسواق أكبر. كما تخلق الشركات الناشئة عددًا قليلاً جدًا من الوظائف معظمها غير رسمية وتواجه العديد من العقبات التي تمنعها من النمو. وغالبية الشركات الناشئة تؤسس ليس بسبب فكرة إبداعية أو ابتكار جديد، بل لأن صاحبها لم يستطع أن يحصل على وظيفة لتأمين لقمة العيش. هنالك المثير الذي يجب عمله لإصلاح الطلب في القطاع الخاص.
اقتصاد الأردن صغير مفتوح ويعتمد بشكل كبير على القطاع العام من حيث خلق فرص العمل. لكي يتغير وضع سوق العمل، يجب أن ينمو القطاع الخاص ويزدهر لجذب الأردنيين بعيدًا عن فرص العمل الحكومية.

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock