مقابسات في "التجديد": "الحواضن الدينيّة" من "الاستقرار" إلى "الأزمة" (3)

د. نارت قاخون

طيلة القرون الممتدة من الرابع الهجريّ تقريباً حتى منتصف القرن الرابع عشر الهجري، كانت "الأشعريّة" و"المذاهب الفقهيّة الأربعة" و"التصوّف السُنيّ" حواضن للتجربة الدينيّة السُنيّة في عمومها.اضافة اعلان
ولا يُمكن تجاوز أثر السياسة وسلطان المؤسسات في جعل هذه حواضنَ للتجربة الدينيّة طيلة تلك القرون، فقد "بدت" الأشعريّة وكأنّها حلٌّ "توفيقيّ" للخروج من أزمة جدالات عميقة وتقلّبات كبيرة بين "أهل العقل" وممثّلهم الأكبر "المعتزلة" و"أهل الحديث" وممثّلهم الأكبر "الحنابلة"، وهما اتجاهان وُظِّفت آراؤهما سياسيّاً لإدارة الصراع السياسيّ والعرقيّ في القرن الثالث الهجريّ، فتبنّى المأمون والمعتصم والواثق مقالات "المعتزلة" أو بعضها للهيمنة على "المزاج الثقافيّ الخاص والعام"، ثمّ جاء انقلاب "المتوكّل" فجعل الشوكة لـ"الحنابلة". كما بدت المذاهب الفقهيّة بعد أن أعادت بناء أصولها الفقهيّة على تأسيسات "رسالة الشافعيّ" خياراً "وسطيّاً" بين "أهل الرأي" و"أهل الحديث". كما ظهر أنّ "التصوّف" بما يوفّره من مسلك عباديّ وأخلاقيّ ومجتمعيّ، يساهم في مواجهة مشاكل النشاط المجتمعيّ من انحراف الأخلاق والفقر، عبر زواياه وتكاياه التي توفّر الغذاء الروحيّ والماديّ. كلّ ذلك، وبالتفاعل مع الأغراض السياسيّة لدولة المسلمين التي بدأت مركزيّة خلافتها بالضعف لصالح ممالك الأطراف، جعل هذه "الحواضن" تبدو خيارات مناسبة لتحقيق الاستقرار في التجربة الدينيّة تحت عنوان "الوسطيّة التوفيقيّة". ويُمكن أن يظهر أثر "السياسة" في أمور منها: "البيان القادريّ" نسبة للخليفة العباسيّ "القادر بالله" الذي أصدر ما صار يُعرف بـ"الاعتقاد القادريّ" العام 433هـ ليعبّر عن "العقيدة الرسمية والصحيحة" التي ينبغي اعتقادها، وهي "العقيدة الأشعريّة" أو ما سُمي بـ"عقيدة أهل السنة والجماعة"، ومنها "المدارس النظاميّة" التي أنشأها الوزير "نظام الملك" فصارت مؤسسات "علميّة" ذات سلطة كبيرة حكراً على العقيدة الأشعريّة والمذاهب الفقهيّة الأربعة.
رغم ما يُبديه بعض المعاصرين من رؤية سلبيّة لهذه التحوّلات، معتبرين "البيان القادريّ" بيان "موت العقل المسلم والاجتهاد الفكريّ"، إلا أنّ الأمر بقراءة متأنية يبدو أقلّ حدّة من هذه النظرة؛ فإنّ تفاعل العوامل السياسيّة والثقافيّة مكّن هذه الحواضن من تحقيق استجابات سياسيّة وثقافيّة معاً للخاصة والعامة طيلة القرون التالية. ولولا هذه المعادلة المركّبة ما كان لها أن تسود وتعمّ بهذا العموم.
فكانت "الأشعريّة" في مستوى "العقائد" تحقّق لأتباعها الشرعيّة الخارجيّة والداخليّة معاً؛ فهي تجيب عن أسئلة المعترضين من غير المسلمين على أصول الديانة من جهة، وتجيب عن أسئلة المخالفين من المسلمين من أهل المذاهب الأخرى، فصارت مهمة "علم الكلام" أن يحاجج عن العقائد الإيمانيّة بالأدلّة العقليّة، والردّ على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السُنة، كما يقول "ابن خلدون" في "مقدّمته". وهذه رؤية ترى أنّ "العقائد الإيمانيّة" "معطىً جاهزاً موجوداً" لم يعد علم الكلام "مُنتجاً" لها بل "مدافعاً" عنها بالأدلّة العقليّة، أي إنّ العقل الكلامي صار عقلاً "حِجاجيّاً" ولم يعدْ عقلاً "إنتاجيّاً". وهذه السمة في العقل الكلاميّ تجلّت في العقل الفقهيّ أيضاً؛ فبعد استقرار المذاهب الفقهيّة، لم يعد العقل الفقهيّ مسكوناً بـ"إنتاج الفقه" بقدر مسكونيّته بـ"الحِجاج" عن آراء المذاهب. وكذلك كان الأمر في "التصوّف" الذي كان منهجاً معرفيّاً وسلوكيّاً سابقاً للخبرة المسلمة وعابراً للأديان يُنتج الأخلاق والسلوكيّات، فصار طُرُقاً "تبرُّكيّة" تتّبع "المعطى القيميّ الأخلاقيّ للمنظومة "السُنيّة" وتخضع لمعاييرها.
كان هذا التحوّل من "الإنتاج" إلى "الحِجاج"، ومن "الاجتهاد" إلى "الاتّباع والتقليد" متوقّعاً في طبيعة صيرورة الخبرة الدينيّة والمعرفيّة، لاسيما أنّ الاستقرار النسبيّ للتجربة المسلمة طيلة هذه القرون جعل الحاجة إلى "الإنتاج" و"الاجتهاد الكليّ" تقلّ حتى تضمحلّ؛ فطيلة هذه القرون ساد شعور مستقرّ مطمئن بتفوّق "الإسلام" على غيره من الأديان أوّلاً، وتفوّق "المدرسة الأشعريّة" على المذاهب الكلاميّة الأخرى، وتفوّق "المذاهب الفقهيّة" وكفاية تأصيلاتها للحاجات المستقرّة والمستجدّة، وكفاية "التصوّف السُنيّ" للحاجات العباديّة والسلوكيّة بجمعه بين السلوك الشرعيّ من جهة، وإفساحه المجال لإضافات الخبرة الفرديّة والجماعيّة بتساهله النسبيّ تجاه مفهوم "البدعة".
هذا الشعور بالتفوّق ظلّ سائداً طيلة هذه القرون، فلم تخض الخبرة المسلمة تجربة تحدٍّ حقيقيّ تجعل "مرجعيّاتها المستقرّة" موضع جدل جذريّ، فلم تجد نفسها "مهزومة" أمام منافس فكريّ ودينيّ وثقافيّ طيلة هذه القرون، إذ على الرغم من تفكّك مركزيّة الخلافة بل تعدّدها، ورغم الهزائم العسكريّة والسياسيّة أمام الغزوين المغوليّ والصليبيّ إلا أنّ ذلك لم يترافق مع هزيمة ثقافيّة حضاريّة، فلا المغول ولا الفرنجة "الصليبيون" كانوا أكثر تفوّقاً فكراً وحضارة، لذلك لم تكن الهزائم "العسكريّة" لتمسّ استقرار الهويّة الدينيّة والشعور بتفوّقها.
وهنا جاء "عصر الاستعمار الأوروبيّ" في القرن 13هـ/ 19م ليشكّل التحدّي الجوهريّ لهذا الاستقرار الشعوريّ؛ فالأوروبيون لم ينتصروا "عسكريّاً" وحسب، بل تفوّقوا بعلوم ومنظومات ثقافيّة وسياسيّة تتحدّى مكوّنات الخبرة المسلمة في جميع مستوياتها بما تقدّمه من نماذج مختلفة كليّاً عن تلك التي سادت لقرون. فبعد أن كان "الدين" معطىً ثابتاً لا جدال في "شرعيّته" و"صوابيّة تعاليمه ومعاييره"، صار موضع السؤال والجدل، فجدّت الحاجة لاستعادة المهمة الأولى لـ"علم الكلام"، أي الحِجاج عن العقائد الإيمانيّة. لكنّ المفاجأة التي وجدها المدافعون عن العقائد الإيمانيّة أنّ ما توفّره الحاضنة الأشعريّة ولاسيما في مراحلها المتأخرة قد لا يُجيب بما هو مُنجَز ومدوّن عن الأسئلة الجديدة؛ فالفلسفة الأوروبيّة الحديثة طرحت أسئلة "العلم الحديث" على "الدين"، وأسئلة "المجتمع الحديث وأفراده ودولته" على "المجتمعات القديمة ودولتهم" وهذه تجربة لم تخضها الخبرة المسلمة من قبل؛ فـ"العلم الحديث" و"الدولة الحديثة" نتاج "الحداثة الغربيّة" التي تقدّم نموذجاً مختلفاً لرؤية "الكون والحياة والإنسان".
وهنا كان على الخبرة المسلمة أن تعيد سؤال "التجديد" في مستوىً آخر لم تتعرّض له من قبل، فإذا كان "تجديد الدين" محصوراً في "إحياء تعاليمه الأصليّة" وحسب، أصبح سؤال "التجديد" في مواجهة "التعاليم الأصليّة نفسها"، فظهرت اتجاهات تكتفي بإنكار "مشروعيّة هذه التحديّات"، وترى فيها حرباً على "الإسلام والمسلمين"، وظهرت اتجاهات تحاول التفتيش فيما هو موروث وموجود لعلّها تجد الإجابات المفحمة لهذه الأسئلة، وظهرت اتجاهات ترى أنّ هذا الموروث المتمثّل في الحواضن السائدة لا يقدّم الإجابات الوافية للأسئلة المستجدّة.
وكان للتحوّلات المتزامنة واللاحقة لزمن "ما بعد الاستعمار" آثار في تعميق أزمة خطابات "التجديد". فنتيجة لغياب "المركزيّة الجامعة" المتمثِّلة في "الخلافة" ولو نظريّاً، ونشوء الدول العربيّة والإسلاميّة "الحديثة" بعد الاستعمار وما مارسته من "إضعاف للمؤسّسات الدينيّة التقليديّة" بزعم "التطوير والتحديث"، ساعدها في ذلك "ضعف المؤسّسات نفسها" وضعف "الحواضن الكلاميّة والفقهيّة والتصوفيّة" التي أصابها طولُ الزمن والاستقرارُ النسبيّ بالشيخوخة والضعف والارتخاء، أمسى الخطاب الدينيّ سواء "التقليديّ" أو "التجديديّ" محكوماً بتفاعلات وتدافعات لم يسبق له أن خاضها في خبرته الماضية.
والذي أراه أنّ "الدولة العربيّة الحديثة" عموماً بمحاولتها محاكاة نموذج السلطة الحديثة من دون الحواضن الفكريّة والمجتمعيّة التي كانت سبب نشوء الدولة الغربيّة الحديثة، و"الوهابيّة" بمحاولة فرضها "نموذجاً" كان "هامشيّاً" طيلة قرون الخبرة الدينيّة الماضية المتمثّل بثنائيّة "الحنبليّة التيميّة"، تحالفتا معاً -بقصد أو من دون قصد- لترسيخ نموذج "القطيعة الحضاريّة مع التجربة المسلمة"، فعوض "الاستطراد الحضاريّ"، ومحاولة استنطاق ممكنات "الخبرة المتراكمة" في حواضنها العقديّة والفقهيّة والتصوفيّة برز "خطاب القطيعة" بمستوييه: التاريخيّ والجغرافيّ، حتى ساد عند جمهرة المشتغلين بـ"الخطاب الإسلاميّ" أنّنا نعيش لحظة من "انقطاع" لا تُوصَل إلا بالقفز إلى البعيد التاريخيّ: "قرون التأسيس الأولى" أو إلى البعيد الجغرافيّ: "سياقات الحداثة الغربيّة".
والذي أراه أنّ هذه "الحواضن" لا تستجيب لمتطلّبات الخبرة الدينيّة المعاصرة في مستوى ما "آلت إليه"، وليس بممكناتها الكامنة فيها نظريّاً بالضرورة، فهي تحمل في تأصيلها مقوّمات منهجيّة ومعرفيّة تجعلها قادرة بدرجة معقولة من الكفاية على خوض الجدليات الحادثة، واجتراح إجاباتٍ لأسئلة العصر في مستوى العقائد والفقه الفرديّ والمجتمعيّ والسلوك القيميّ الأخلاقيّ، ولكنها إجابات تحتاج إلى مجموعة من الانزياحات والتحوّلات تحتاج توضيحاً في مقالات بذاتها.