مقولة الاستهداف

شاركنا جميعا، بدرجة أو أخرى، في تحميل السياسات الاميركية والغربية عموما مسؤولية تصاعد التطرف والارهاب. والمقولات الاكثر كياسة وحذرا من الظهور بمظهر تبرير الارهاب، لم تتردد في التشديد على أهمية الحلول السياسية العادلة لقضايا المنطقة، لحرمان التطرف من استغلال القهر والمظالم القائمة. حتى الولايات المتحدة من جهتها، افترضت وجود عوامل ساعدت على نشوء وتصاعد التطرف الاصولي، مثل غياب الديمقراطية وبقاء أنظمة فاسدة ودكتاتورية، فأبعدت النار عن قرصها مع قبول منطق وجود عوامل موضوعية تغذّي الظاهرة.

اضافة اعلان

والحقيقة قد تكمن، بدرجة أو أخرى، في هذه العوامل معا. لكن الان، مع تصاعد الغضب من هذه المجزرة الجنونية المتوسعة باطراد (وامس، وبعد يوم من مجزرة شرم الشيخ، أدّى تفجير انتحاري الى مجزرة في بغداد ذهب ضحيتها أربعون عراقيا)، بدأ يتردد على لسان مثقفين وكتّاب دعوة للكف عن مقولات تبرر الارهاب بأي صورة، إذ أصبح ضروريا ادانة الارهاب وتشديد الحملة عليه وتعريته، ورفض أي ربط يقدّم له مبررات أو مسوّغات.

نحن نجد صعوبة في الاستغناء عن الدعوة إلى ربط الحرب على الارهاب بسياسات أكثر عدلا، وخصوصا بالنسبة للقضية الفلسطينية. ونضع القضيّة الفلسطينية في المقدّمة لبعدها التاريخي والديني، اذ تبقى القضايا الاخرى طارئة وظرفية، مهما بلغت سخونتها ودراماتيكيتها، ومهما كان دورها في المسار الراهن للأحداث.

لكن المقولة التي يجب التوقف عندها بسبب ما تنشره من ثقافة تذهب أبعد من التبرير، وتجعل الخلاف مع الارهاب تكتيكيا، أي في الاجتهاد حول الاساليب فقط، فهي مقولة "الاستهداف"، الغالية على قلوب التيار الاسلامي عموما، بل وكثيرا ما يستخدمها الرسميون في عدّة بلدان، تساوقا مع السائد من الكلام.. نحن مستهدفون، الامّة مستهدفة، الاسلام مستهدف. هذه مقولات تخدم من يريد تعبئة الرأي العام حوله، واللعب على المشاعر العامّة. لكنه خطاب تسطيحي، يلعب دورا معاكسا وخطرا في الثقافة الاجتماعية. وفي هذه المرحلة، فإن التطرف الاصولي هو المستفيد الابعد من هكذا طروحات؛ فهي تكرس مفهوم صراع الأديان والحضارات، وإعفاء الذات "الضحيّة" من المسؤولية، وتبرير السلوك غير السوّي، أي الافعال الانتقامية اليائسة، ويصبح الامر كالتالي: اذا كنّا مستهدفين ولكننا عاجزون خائرو القوى ونشكو فقط، فثمّة أصحاب عزائم يتصدّون للمواجهة بما تيسّر، ولايكتفون بالتفرج أو الشكوى.

لكن عسى ان فيتنام لم تكن مستهدفة في حينه بحرب شرسه، نزل فيها نصف مليون جندي اميركي، وبكل الترسانة الحربية، بما في ذلك الاسلحة الكيماوية (هل تذكرون العامل الاصفر الذي تم ذرّه على كل حقول فيتنام وغاباتها؟). مع ذلك، لم يطلق الفيتناميون رصاصة واحدة خارج فيتنام، أو قنبلة واحدة عشوائية! ثمّ ان الرأي العام في الولايات المتحدّة كان منقسما حول فيتنام، وهو منقسم الان هناك، وفي بريطانيا بأكثر من ذلك، حول العراق. المعسكرات السياسية تنفرز عموديا وافقيا في هذا العصر، ومقولة صراع الاديان والحضارات تنطوي على تسطيح وتجهيل، وتخدم التطرف اليميني فقط في كل مكان.

الدول لا ترضخ للابتزاز المضمر في التفجيرات التي تجعل المدنيين هدفا لها، وهي لا تغير موازين القوى، ولن يترتب عليها مكاسب أكثر من العمل السياسي والمقاومة السلمية الملتزمة بالوسائل القويمة في تراث كل حركات التحرر الوطني. لكنها، وهي تتغذّى على تزييف للوعي العام عموما وغسيل لدماغ محازبيها خصوصا، فليس لنا ان نساهم في ذلك بمقولات تساهم في تخصيب الارض التي تنمو عليها.

[email protected]