مناقشة علمية لوزير الصحة

أنس المحتسب*

هل الإغلاقات الجزئية تخفض المنحنى الوبائي؟ ما يزال هذا السؤال مثار جدل بين المختصين والعامة، وما يزال مطروحا بقوة على طاولة البحث العلمي، وأظنه سيبقى كذلك حتى بعد انتهاء الجائحة لتحصيل دروس مستفادة لجوائح مستقبلية. صباح يوم الجمعة عرض معالي وزير الصحة د. فراس هواري ولأول مرة نتائج دراسة وزارة الصحة التي أجرتها مع منظمة الصحة العالمية، والتي استند إليها مبررا إجراءات الحظر الجزئي التي تمت وسيتم اتخاذها خلال شهر رمضان المبارك. ولأن الوزير عالم في تخصصه ويحب العلم ويحرص مشكورا على استخدام هذه اللغة حتى في خطابه الإعلامي، فليسمح لنا بهذه المناقشة العلمية للدليل الذي استند إليه من طبيب متخصص في مجال الاقتصاد الصحي.اضافة اعلان
ابتداء فإن «تقييم أثر السياسات الصحية» علم بحد ذاته وهو فرع عن علم الاقتصاد الصحي، وعملية التقييم لها منهجيات كمية معروفة ويمكن العودة لتفصيلها في مراجع عديدة من أهمها الكتاب الصادر عن البنك الدولي بعنوان «Impact evaluation in practice». على أن المهم في الموضوع هو أنه لا توجد في أي من هذه المنهجيات منهجية المحاكاة «simulation» التي استند إليها الوزير. ذلك أن منهجية المحاكاة -من اسمها- تحاول محاكاة الواقع وتفيدنا في التنبؤ بالسيناريوهات المستقبلية ولكنها ليست الواقع بأي حال من الأحوال ولا تفيد بتأكيد أو حتى ترجيح أن الإجراء الفلاني كان مفيدا أو غير مفيد، وهي في أحسن الأحوال دليل بحثي ضعيف تبرز فائدته عندما تغيب الأدلة الأخرى الأقوى دلالة كما كان الحال قبل بدء الجائحة. أما وقد مرّ على الجائحة سنة كاملة فينبغي اللجوء إلى أدلة أكثر متانة وحجة، خاصة وأنه توجد دراسات محاكاة أخرى تبين ضرر الحظر الليلي على المنحنى الوبائي وثالثة تبين ضرر إغلاق المدارس على المنحنى الوبائي، مع فرق أن هذه الدراسات منشورة يمكننا نقدها بخلاف الدراسة التي تحدث عنها الوزير فلم نر منها إلا ما عرضه على الشاشة.
إن أبرز مشكلة تواجه الباحثين في إجابة سؤال فائدة إجراءات الحظر هي تحديد المقابل الافتراضي «counterfactual» والذي يعني الحالة التي سيكون عليها المنحنى الوبائي فيما لو لم تنفذ إجراءات الحظر، وهذه حالة افتراضية لا نعرفها لأنها ليست الواقع، ولكن تقديرها ضروري جدا لأجل المقارنة ولأجل التمكن من ادعاء فائدة أي إجراء من الإجراءات. كيف عالج الباحثون هذه الإشكالية؟ بإيجاد مجموعة أو مجموعات أخرى مقارنة متشابهة مع المجموعة قيد الدراسة ممن لم تتم عليهم هذه الإجراءات، وبالتالي نفترض أن ما جرى على المجموعة المقارنة يمثل المقابل الافتراضي، وحينها نتمكن من تقدير الفائدة الحقيقية للإجراء، وهذا يخضع لمنهجيات إحصائية متقدمة وهو ما عالجه الكتاب المذكور أعلاه في فصوله المتعددة.
من أين لنا بمجموعة مقارنة؟ إما من بلدان أخرى كثيرة حول العالم، وأفضل منها أن نقارن الموجة الوبائية الحالية مع الموجة الوبائية السابقة، فالمجتمع هو ذات المجتمع بثقافته وسلوكه وخصائصه الديمغرافية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها، مع مراعاة فارقين أساسيين: اختلاف سلالة الفيروس فهي الآن أكثر انتشارا، وأننا دخلنا الموجة الحالية وقد أصيبت نسبة عالية من السكان مما يعني محدودية الإصابات المتوقعة. هنا لدينا نموذج تطبيقي متمثل في صلاة الجمعة؛ فمنذ نهاية شهر تشرين الأول أي قبل بلوغ قمة الموجة الأولى بشهر كامل كانت صلاة الجمعة تعقد وحدها مع بقاء الحظر بقية اليوم، ومع ذلك ارتفع المنحنى الوبائي حتى بلغ القمة ثم عاد للانخفاض رغم استمرار عقد الصلاة حتى نهاية الموجة، مما يغلب الظن أن عقد صلاة الجمعة لا علاقة له برفع ولا خفض المنحنى الوبائي. هل سيختلف أمر هذه الموجة مع المتغيرات الجديدة؟ ربما، لكن يمكن تجاوز هذا باتخاذ إجراءات وقائية أشد. وبكل الأحوال يبقى هذا الدليل أقوى بكثير من دلالة دراسة المحاكاة التي ذكرها الوزير، وقد استقر في علم السياسة الصحية المبنية على الدليل أنه لا يلجأ إلى الدليل الأدنى إلا بعد فقدان الدليل الأعلى، وإلا كانت السياسة المتبعة غير مبنية على الدليل.
وكذلك فإن من أصول ممارسة السياسة الصحية المبنية على الدليل أن الدليل العلمي لا ينفذ حرفيا كما هو دون مراعاة السياق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي تطبق فيه «context». فحتى لو افترضنا جدلا أن تلك الإجراءات ذات جدوى، فإن كلفتها باهظة جدا، خاصة وأنها لا تأتي في شهر ضعيف النشاط الاقتصادي بل في شهر رمضان وفترة العيد حيث ذروة النشاط الاقتصادي لكثير من المنشآت التجارية والخدمية خلال العام، وهؤلاء سيحرمون لعامين متتاليين من ذروة نشاطهم، فكيف إذا كان الدليل الذي يتم الاستناد إليه ضعيفا بل ومرجوحا؟
غني عن القول، ان حديثنا عن الإغلاقات الجزئية وحظر الجمعة والحظر الليلي، وليس عن التزام الكمامة والتباعد الجسدي وغسل اليدين ومنع التجمعات الكبيرة، فهذه رأينا فائدتها أثناء الموجة الأولى ورأينا ضرر عدم الالتزام بها في مواقف عديدة، وعليها دراسات مقارنة تؤكد فائدتها.
*اختصاصي طب الأسرة
ماجستير الاقتصاد الصحي