مناقلات الأجهزة الرقابية.. بين "المحاسبة" و"المظالم"

بعيدا عن الاعتبارات الإجرائية، لا شيء يمنع تغيير الموظف العام كل أربع أو خمس سنوات. فالأشخاص يعطون أفضل ما لديهم في السنوات الأربع أو الخمس الأولى. ويمكن أن يمدد للشخص في الموقع إذا ما أظهر قدرات استثنائية، وبرنامج تطوير يستدعي حصوله على وقت إضافي لتنفيذه.اضافة اعلان
في بلادنا، يشكو الناس من سرعة التبدل والتغيير؛ فلا يكاد الشخص يحل في الموقع، وقبل أن يمضي عامه الأول، ويجري استبداله من دون معرفة الأسباب التي جاءت به للموقع، أو التي أدت إلى نقله أو إبعاده عنه.
غالبية القرارات التي تتخذ في الإدارة العامة، تخضع لرغبات من يسيّرون الشأن العام. وفي غياب معايير التقييم، تبقى "شهادات التسامع" هي المصادر الوحيدة للتقييم والحكم على صلاحية كبار الموظفين. فكثيرا ما نسمع أن "مسموعات فلان جيدة.. ومسموعات علان مش ولا بد".
في كل مرة تتخذ فيها قرارات تعيين رئيسة، أو استغناء عن خدمات أو نقل، تنشغل البيروقراطية الأردنية ووسائل إعلام بالتخمين والتساؤل عن الأسباب الكامنة وراء القرار، والدوافع الخفية لإزاحة المسؤول، والغاية من الإتيان بمن سيحل محله. وتشمل التحليلات كل جوانب شخصيات الأفراد الديمغرافية والتوازنات العشائرية والأوضاع المالية ودرجة العلاقة بصناع القرار، من دون أن تتطرق كثيرا للإنجاز الذي قام به هؤلاء المسؤولون، ومستوى الأثر الذي أحدثه وجودهم على أداء المؤسسة وسمعتها ورضا الجمهور.
قبل أشهر قليلة، جرى، وبصورة مفاجئة، تعيين رئيس ديوان التشريع والرأي رئيسا لديوان المظالم، بالإضافة لموقعه، بعد أن دفعت الإجراءات القائم بأعمال رئاسة ديوان المظالم وعراب فكرة إنشائه للاستقالة. وبالرغم من انشغال الرئيس الجديد بأعمال تحتاج ضعف طاقته الاعتيادية، بررت الحكومة التعيين بأنه قرار صائب استدعته المصلحة العامة. وفي العام نفسه، لم تتردد الحكومة في إسناد رئاسة مجلس إدارة "الملكية الأردنية" لرئيس أكبر محفظة استثمارية في البلاد، والتي تحتاج إدارتها عشرة أضعاف الوقت المتاح له. وفي كل أسبوع، يعاد تشكيل مجالس إدارة شركات تملكها الحكومة أو مؤسسة الضمان الاجتماعي، ويزج فيها أشخاص لا علاقة لهم بميدان عمل المؤسسة أو الشركة، فالغاية كما يبدو هي تنفيع هؤلاء الأشخاص.
الأزمة في بلادنا أزمة خوف وفقدان ثقة، وليست أزمة كفاءات. فبين ظهرانينا عشرات آلاف الأشخاص الذين بإمكانهم القيام بإدارة مهام المؤسسات بمهنية وكفاءة تتجاوز عشرات المرات ما تقوم به فرق التدوير المعينة على "كوتات" الحب والإخلاص.
قبل أقل من عام، جرى تعيين رئيس جديد لهيئة مكافحة الفساد. وقبل أن يحتفل بمرور عام على حلوله في الموقع الذي استحوذ على اهتمام الأردنيين خلال الأعوام الخمسة الأخيرة، جرى نقله إلى موقع رئيس ديوان المحاسبة، من دون توضيح الأسباب، وبما ترك الباب مفتوحا لتخمينات الجمهور حول ما إذا كان القرار يعكس تراجع اهتمام بمكافحة الفساد، أو خفض مستوى توقعات الناس من الهيئة التي ظن الناس أنها ستكون ملاذا لشكواهم.
رئيس ديوان المحاسبة المنهيّة ولايته، أمضى قرابة عقد من الزمن في موقعه الحالي، استطاع خلاله الحفاظ على علاقة متوازنة مع السلطات الثلاث. ومع أن المدة تزيد على ثلاثة أضعاف معدل الوقت الذي يمضيه الأشخاص في المواقع العليا، فقد كان ملفتا ردة الفعل على هذا التغيير؛ إذ انشغل البعض بتفسير مبررات القرار، واستقبله البعض بقدر من الدهشة والاستغراب.
أن تمضي عشر سنوات في موقع، هو وقت أطول من طويل، والتغيير مستحق. ومع أنني مؤيد لوجود معايير وأسس للخدمة لا يجري تجاوزها، إلا أن المستغرب هو استغراب البعض لهذا الإجراء، وصمتهم على إجراءات سابقة غير مفهومة الدوافع ولا المبررات. لقد سيطرت ثقافة الاستحقاق على عقول ووجدان الأردنيين، وأصبح البعض ينظر للموقع العام وكأنه ملكية لا يستحقها غيره. والاندفاع باتجاه هذا النمط من التفكير والشعور، له أسباب؛ يأتي في مقدمتها اتخاذ مسؤولين قرارات يصعب الدفاع عنها أو تبريرها، كتعيين أقارب ومعارف متجاوزين آخرين ربما يكونون أكثر استحقاقا.
امتلاك سلطة القرار لا تكفي لاتخاذ قرارات رشيدة. وإدارتنا بحاجة إلى تطوير يتجاوز الجمل الرنانة التي نسمعها في حفلات الافتتاح والتكريم وتقارير النزاهة والشفافية ومسودات خطط التطوير. نحن بحاجة إلى قواعد واضحة وعادلة وصارمة، وتقييم يستند إلى مؤشرات لا خطابات نحشوها بالمواعظ والنوايا والانطباعات.