منبر صلاح الدين

 مساء الخميس الماضي، بثت قناة الجزيرة تقريرا حول تدشين منبر صلاح الدين وإعادته الى مكانه في المسجد الاقصى، والتهديدات الصهيونية للحرم القدسي. وتحدثت المراسلة من القدس، وأحد من قابلتهم، لكنني لم اسمع اسم الاردن، ولا عمان، ولا السلط، ولا جامعة العلوم التطبيقية! فما سمعه المشاهدون هو ان المنبر عاد الى مكانه، وان ترميمه تم بأيدي مهندسين عرب ومسلمين.

اضافة اعلان

وكعربي مسلم واردني، شعرت ان مثل هذا التجاهل يسرق جهد الاردن وشعبه؛ هذا الجهد الذي لا يتم الحديث عنه من باب المنة، بل من باب الفخر اننا جميعا في الاردن نؤدي بعض واجبنا نحو فلسطين والقدس ومقدساتها.

لم أكن انتظر ان اسمع مديحا، بل معلومات اولية تقول ان المنبر تم ترميمه في الاردن، وان شرف الانفاق على هذا المعلم التاريخي الاسلامي كان للاردن وقيادته وشعبه، وان المنبر جاء من الاردن، وان ادارة عملية الترميم كانت اردنية، وبتوجيه ومتابعة سياسية عليا. وكل هذا، كما اشرت، امر نفتخر به كاردنيين؛ فالقدس والمسجد الاقصى جزء من عقيدتنا الاسلامية وحضارتنا العربية. لكن، للاسف، لم يذكر التقرير ذلك، وربما من سمعه احس ان المنبر جاء من المجهول!

وعودة منبر صلاح الدين الى مكانه، بحيث كانت اول خطبة جمعة من عليه امس، هذه العودة تأتي بعد إحراقه في العام 1969 على ايدي المتطرفين الصهاينة؛ اي ان عودته جزء من الرد على حملات التهويد والاستهداف التي يتعرض لها المسجد الاقصى منذ احتلال القدس وحتى اليوم.

والمنبر يحمل اسم القائد صلاح الدين الايوبي، رضي الله عنه، الذي سجل بجهده وجهاده مرحلة تاريخية زاهرة للامة، بتحريره فلسطين والقدس، وإخراج المحتل منها. وحتى بعدما رحل هذا القائد وعادت الامة الى ضعفها وتفرقها، وكذلك عودة القدس للاحتلال عندما سلمها احد امراء المدن ضمن خصومته لاشقائه، فقد بقيت الامة حية، وعادت الجيوش تنطلق من الكرك لتحرر القدس وفلسطين.

القضية ليست منبرا تاريخيا، بل إن من صنع المنبر سيبقى يذكّر الامة بواجبها وتاريخها تجاه الارض التي بارك الله حولها. واسم صلاح الدين، رحمه الله، يذكرنا ان ضعف الامة ليست قدرا لا ينتهي، بل مراحل تأتي وتنتهي عندما تأخذ الامة باسباب النصر، او تترك نفسها للفرقة والضعف.

وعودة منبر صلاح الدين الى مكانه من الاردن، بمبادرة وجهد واهتمام اردني، هي احترام واعادة اعتبار لمعالم المسجد الاقصى والقدس، لان الصهاينة المحتلين يهمهم ان يقوموا بازالة اي جزئية من هوية المدينة المقدسة. ولهذا مارس الصهاينة المتطرفون (وكلهم متطرفون) اول عدوانهم على هذا المنبر، بهدف ازالة احد معالم المسجد، واسم القائد صلاح الدين.

العرب ابناء فلسطين كانوا يدركون سياسة الاستعمار الصهيونية، لهذا اندلعت ثورة البراق العام 1929، لان الناس ادركوا في حينه ان تغيير اسم حائط البراق الى حائط المبكى بداية عمليات التهويد. وفي كل مرحلة كانت القدس ومقدساتها وقودا يؤجج الثورة على المحتل. كان هذا قبل ان تتغير اولوية بنادق الثوار لتصبح آلة قتل واغتيالات واختطاف من جناح مسلح لاخر مثله! وقبل ان تتحول غزة من خنجر في خاصرة الاحتلال الى ساحة خزي وعار على تاريخ فلسطين، وتشويه لنضال وصبر وكفاح الشعب الفلسطيني!

الامة في حالة ضعف، وجيوشها ليست على ابواب القدس، لهذا فلا اقل من مواجهة التهويد والاستهداف. واقامة الصلاة في المسجد الاقصى، وحراسته، وترميم منبر صلاح الدين، وكشف مخططات التهويد، وصمود المقدسيين في مدينتهم، كل هذا وغيره يؤذي الصهاينة، لان الحفاظ على هوية المدينة المقدسة، والابقاء على المسجد الاقصى حيا حاضرا، تثبيت لهوية القدس، ورد على مزاعم وخرافات الحركة الصهيونية.

شرف وواجب ومصدر فخر ان يكون ترميم منبر صلاح الدين على ارض الاردن، وبجهد ومبادرة اردنية. وبقاء اسم القائد المجاهد صلاح الدين في مكونات المدينة جزءا من هويتها، هو عبرة للامة ان ارادت يوما ان تتخلص من ضعفها وتفرقها. ومهما كانت عمليات التهويد، فالاقصى حاضر الى ما شاء الله، لانه جزء من كلمات كتاب الله، وان كان هذا لا يعفي الامة من مسؤولياتها التي تبدأ بتعليق صورة المسجد الاقصى في البيوت، وصولا الى معركة التحرير التي هي جزء من احلام الناس، حتى ان كان الواقع ومعطياته لا يخدم هذا الحلم.

هيكل مزعوم عجزت اربعون عاما من الحفريات والاحتلال عن تحويله إلى الواقع، ومسجد مبارك قائم بكل مفرداته وتاريخه وخلوده في كتاب الله. والمنبر الذي صعده الخطيب امس الجمعة لاول مرة منذ احراقة في العام 1969 هو احد الشواهد على عدالة هذه القضية. إن صلاح الدين ليس تاريخا فقط، بل هو نهج يمكن ان يتكرر ليصل الى ذات النتيجة، لكن النتائج مقدمات لا بد ان تتحقق، وللمسببات أسباب.

[email protected]