منطق التصعيد في أوكرانيا

‏‏روس دوثات‏ – (نيويورك تايمز) ‏25/1/2023 ترجمة: علاء الدين أبو زينة‏

اتخذت الولايات المتحدة قرارا منطقيا باردا في أوكرانيا. وكذلك فعلت روسيا، عندما يتعلق الأمر بالتصعيد. وبالنسبة لنا، من الضروري أن نثبت عسكريًا أن حالة من الجمود في الميدان هي أقصى ما يمكن أن تأمل كييف في تحقيقه، وأن الدعم الأميركي والأوروبي قد يكون كافيًا للاحتفاظ بالأرض، ولكن ليس لاستعادتها بشكل كاسح. ولا يمكن تقديم مثل هذا الدليل إلا من خلال التصعيد، مع الأمل في أن يكون خفض التصعيد كامنًا في الانتظار على الجانب الآخر.‏

* * * عندما حقق الجيش الأوكراني تقدما سريعا في حملته التي شنها في الخريف، كانت المخاوف من قدوم انتقام نووي روسي مرتبطة بتفسير أميركي قائم منذ وقت طويل للنظرية الاستراتيجية الروسية: “‏‏التصعيد من أجل خفض التصعيد‏‏”، أي فكرة استخدام ضربة نووية محدودة لرفع مخاطر الصراع إلى درجة عالية جدًا بحيث أن أعداءك لا يعودون يرون أمامهم خيارا سوى المساومة، بغض النظر عن مزاياهم في القوة التقليدية.‏ ‏‏ولكن، في الأشهر التي تلت منذ ذلك الحين، خففت العودة إلى نوع من حرب استنزاف، والعديد من ‏‏حالات الإنكار الروسية، من المخاوف النووية إلى حد ما. لكن نظرية “التصعيد من أجل خفض التصعيد” تظل ذات صلة بالوضع الراهن في أوكرانيا، لأنه يبدو أنها تُرشد كلًا من الاستراتيجيات الأميركية والروسية -التقليدية وليست النووية- عندما يتعلق الأمر بحملة الربيع.‏ ‏لاحظوا أنني قلت “الاستراتيجية الأميركية” ولم أقل الأوكرانية. ما تزال استراتيجية أوكرانيا المرغوبة بخصوص الحرب بأكملها كما كانت، بشكل مفهوم بما فيه الكفاية: التصعيد من أجل الفوز. وتريد كييف الحصول على أكبر عدد ممكن من الأسلحة التي يمكن للغرب أن يرسلها، وتريد استعادة كل شبر من الأراضي التي احتلتها روسيا، ولا تريد أن تقبل بشروط يكون من شأنها أن تجعلها تتنازل عن أي شيء للروس الغزاة.‏ ‏تشارك أوكرانيا في هذا الموقف العديد من الأصوات المتشددة في أوروبا وأميركا، من الذين يواصلون التخطيط ‏‏لتحقيق انتصار أوكرانيا والإطاحة بفلاديمير بوتين‏‏. لكنّ إدارة بايدن ربما لا تشارك في هذا الموقف -أو ليس صناع القرار الرئيسيين في الإدارة على الأقل.‏ نعم، ما يزال الموقف الرسمي للبيت الأبيض هو أن أوكرانيا ستحصل على دعمنا كل الطريق إلى تحقيق النصر. لكن النهج الحذر الذي اتبعه الرئيس بايدن وفريقه في تقديم الأسلحة التي يمكن أن تغير ميزان الحرب بشكل جذري، ‏‏واللكزات‏‏ التي توجهها إلى كييف لتشجيعها على إظهار انفتاح على التفاوض، والقلق بشأن الاستثمار بكثافة على حساب ‏‏التزاماتنا الآسيوية‏‏ -كل هذا يشير إلى أن الهدف القريب للبيت الأبيض هو الوصول إلى هدنة مواتية، وليس إلحاق هزيمة كاملة بروسيا.‏ ‏مع ذلك، للوصول إلى هذا السلام المتخيل، سوف يحتاج المرء إلى إقناع الروس بأن جلب هدنة حقيقية -على عكس الوصول إلى “صراع مجمَّد” آخر، حيث تموت الحرب بينما لا يتم تأسيس السلام رسميًا– هو شيء سيخدم مصلحتهم، وأنهم إذا أبقوا الحرب مستعرة فإنهم سيستمرون في فقدان الرجال والعتاد بوتيرة وحشية مزعزعة لاستقرار النظام.‏ كان أحد الآمال هو أن الهجوم المضاد الذي شنه الأوكرانيون في الخريف الماضي وقدرة أوروبا الناجحة حتى الآن على تحمل أشهر الشتاء سيكونان عاملين حاسمين في دفع موسكو نحو قبول هذا الواقع، بل وحتى نحو تخفيف مقترحاتها الخاصة (التي لا شك في أنها كانت غير واقعية في البداية) للتوصل إلى تسوية عن طريق التفاوض.‏ ‏ولكن بدلاً من ذلك، يبدو أن الروس ليسوا متشبثين بعنادهم فحسب، بل ويستعدون أيضًا‏‏ ‏‏لشن هجومهم المتجدد الخاص‏‏. ويفسر هذا بدوره سبب قيام البيت الأبيض في عهد بايدن، ومعه حلفاؤنا الأوروبيون، بحذر -وبقدر معين من التردد الجرماني- بزيادة منسوب التصعيد، فيتسامحون الآن مع زيادة أعداد الدبابات والمدرعات الثقيلة التي تتدفق إلى أوكرانيا.‏ ‏حتى الآن، ليست هذه سياسة مصممة يمكن أن تتغلب بشكل كامل على تعبئة تقوم بها روسيا أو تؤدي إلى طرد الروس من أوكرانيا. إنها سياسة تهدف على ما يبدو إلى إضعاف أي هجوم روسي جديد، وربما لجعل الروس يخسرون المزيد من الأراضي، والإظهار لموسكو أنها لا تستطيع الفوز في حرب طاحنة بسهولة أكبر مما كانت تأمل فيه في البداية من الفوز بحرب قصيرة خاطفة. إنه تصعيد يفترض أن الروس ما يزالون في حاجة إلى بعض الإقناع الإضافي، وبعد ذلك سيكونون منفتحين على خفض التصعيد الذي لم نتمكن من تحقيقه بخلاف ذلك.‏ ولكن يبدو أن ثمة منطقًا مماثلاً يقود الاستراتيجية الروسية -بالقدر الذي يمكننا أن نراه من خلال الزجاج المظلم القائم بيننا وبين النوايا الروسية.‏ من وجهة النظر الروسية المفترضة، فإن المكاسب التي حققها الروس في الخريف والمرونة الأوروبية في الشتاء جعلت من تحقيق النجاح العسكري مطلبًا أكثر إلحاحًا فحسب. لا جدوى من تليين الموقف في مقترحات السلام طالما أن الأوكرانيين مقتنعون بأن بإمكانهم تحقيق نصر كامل؛ وهم مقتنعون الآن بذلك أكثر من أي وقت مضى.‏ ‏لذلك، فقط بمجرد أن ينكسر هذا الأمل بقوة السلاح، يمكن أن تبدأ تسوية تقبلها موسكو في الظهور؛ الأمر الذي يجعل من الضروري أن نثبت عسكريًا أن حالة من الجمود في الميدان هي أقصى ما يمكن أن تأمل كييف في تحقيقه، وأن الدعم الأميركي والأوروبي قد يكون كافيًا للاحتفاظ بالأرض، ولكن ليس لاستعادتها بشكل كاسح. ولا يمكن تقديم مثل هذا الدليل إلا من خلال التصعيد، مع الأمل في أن يكون خفض التصعيد كامنًا في الانتظار على الجانب الآخر.‏ سوف يعترض الصقور على هذا التحليل بالإشارة إلى أنه ليس لدينا دليل على أن روسيا تريد بالفعل خفضًا حقيقيًا للتصعيد في أي مرحلة قبل إستكمال غزوها. (ومن هنا جاءت الحجة المتشددة للدعوة إلى تدخل أميركي أكثر تطرفًا وموجهًا نحو تغيير النظام في ر وسيا). وسوف يعترض الحمائم أيضاً بدعوى أنني أبالغ في تقدير رغبة البيت الأبيض الحقيقية في التوصل إلى تسوية، وأقلل من شأن المدى الذي تتحدد به السياسة الأميركية بحمى الحرب، أو الضرورات العسكرية الصناعية، أو الرومانسية الليبرالية المتحللة التي تحنّ إلى قومية سابقة بعيدة. (ومن هنا جاءت الحجة الحمائمية لتبرير خفض -أو رفض- تقديم المزيد من المساعدات العسكرية لكييف).‏ ‏لكن السبب في رؤية الوضع بالشروط التي وصفتها أعلاه، حيث تتخيل كل من واشنطن وموسكو نفسيهما وهما تصعِّدان نحو تسوية سلمية، هو أنه وضع مألوف تاريخيًا. كثيرًا ما تندلع حرب، ويكون من المتوقع أن تنتهي بسرعة، لكنّ حالة من الجمود تنشأ بدلاً من ذلك، ويصبح كلا الجانبين مقتنعين بأن زيادة التزامهما بالصراع ستؤدي إلى جلب نهاية له بشكل أسرع وبشروط أكثر ملاءمة.‏ ليست هذه القناعة المتبادلة مسألة رومانسيةٍ أو خيالٍ أو حماقة بسيطة (على الرغم من أن هذه القوى تدخل في الحساب بطبيعة الحال). بدلاً من ذلك، يجري تبني التصعيد كقرار منطقي بارد، باعتبار أنه المسار المعقول الوحيد المتاح.‏ ‏وانطلاقا من هذه العقلانية نفسها، يصبح المرء أقرب إلى اللاعقلانية بالقتال لسنوات في حرب لا يمكن لأي من الطرفين أن يأمل في الفوز بها بشكل كامل.‏ ‏*روس دوثات Ross Douthat: كاتب عمود رأي في صحيفة “نيويورك تايمز” منذ العام 2009. وهو مؤلف العديد من الكتب، آخرها، “الأماكن العميقة: مذكرات عن المرض والاكتشاف” The Deep Places: A Memoir of Illness and Discovery.‏ *نشر هذا المقال تحت عنوان: The Logic of Escalation in Ukraine

اقرأ المزيد : 

اضافة اعلان