منظمات مجتمع مدني من غير مجتمع مدني

يفترض أن منظمات المجتمع المدني تعكس قواعد ومصالح اجتماعية تتشكل حولها مجموعة من المواطنين، تعبر في عددها واهتمامها ومصالحها عن محاولتها التأثير على السلطة والسوق والمجتمع باتجاه الأهداف التي سُجلت أو نظمت على أساسها. اضافة اعلان
إلى أي مدى تعكس المؤسسات الاجتماعية أو المسجلة على أنها مؤسسات تجارية ولكن جميع أنشطتها تمولها صناديق وجهات تستهدف المجتمع وأولوياته، مصالح واهتمامات المواطنين والمجتمعات؟ ماذا يعرف عنها المواطنون؟ كم عدد هيئاتها العمومية؟ من يملكها وما علاقة المالكين ببعضهم بعضا؟ من يستفيد فعلا من برامجها ومن يشارك فيها؟ وما تأثير هذه المؤسسات وبرامجها، الفعلي والحقيقي، على اتجاهات السلطة والسوق والمجتمع والأفراد؟ وهل تتفق النتائج الممكن قياسها، مع الأهداف والآمال والأموال التي أنفقت والجهود التي بذلت والوقت الذي انقضى في عملها؟
أتابع منذ العام 1990 ندوات ومؤتمرات وورش أعمال ودورات تدريبية تعقد في فنادق خمس نجوم في عمان وفي البحر الميت، وأحضر مسرحيات ومحاضرات وندوات تعقد في المؤسسات العلمية والثقافية ومراكز الدراسات. وما يفوتني، بالطبع، يساوي أضعاف ما أحضره؛ فما تنشره الصحافة من أخبار وتقارير عن مثل هذه الأنشطة والبرامج، يؤشر إلى كثافة هائلة في العدد تفوق قدرة المستهدفين على استيعابها والمشاركة فيها!
يزدحم البلد بمنظمات المجتمع المدني من غير مجتمع مدني. وتقدم أوراق ومحتويات مرتجلة غالباً، وتدور نقاشات ومداخلات لا يكاد معظمها يكون ذا قيمة وأثر. وهي برامج يغلب عليها أنها بلا حضور ومشاركة حقيقية؛ فلا يحضر ولا يشارك في هذه البرامج سوى عدد محدود لا فائدة من مشاركة وحضور معظمهم، بل ويكون الحضور في أحيان كثيرة ديكوريا، موظفين وعمالا وطلبة ألزموا بالحضور والمشاركة.
الرد على هذه المقولة بأمثلة ونماذج صحيحة مخالفة لما أزعم لا ينقض المقولة ولا يعني خطأ ما أقول، إذ يوجد دائما أمثلة ونماذج ناجحة ومهمة، ولكن هذه النماذج لا دلالة لها في مجمل التقييم العام على مستوى البلد والمجتمعات. أن تعرض تقريرا صحيحا عن تجربة رائدة، أو قصة نجاح في قرية بعيدة، يزيد في التضليل، فكلمة السرّ دائما هي "الجميع". وبالطبع، فإن من حق أصحاب التجارب الناجحة أن يفتخروا بنجاحهم ويتحدثوا عنه، لكن عند الحديث عن البلد والمجتمع بعامة، والتجارب والحالات القائمة في مجملها، فإننا، وبطبيعة الحال، لا نأخذ بالاعتبار قصص النجاح هذه إلا بمقدار تأثيرها في النتائج العامة والكلية. نضحك على حالنا بعرض الأمثلة الصحيحة التي تختلف عما قلت، ذلك أنه حتى في الدول المنهكة بالفقر والصراع توجد قصص نجاح وإنجاز حقيقي وقائم بالفعل، لكن الأمثلة الصحيحة لا تكفي لنفي حالة عامة وسائدة من المشاريع والمؤسسات الوهمية وغياب الإنجاز والإنتاج.
لا نحتاج لأجل الحكم والتقييم سوى أن ننظر ببساطة إلى البوادي والغابات، ونرى التقدم في استصلاحها وتطويرها. وهذه مدارسنا وجامعاتنا ومستشفياتنا ومؤسساتنا الاجتماعية نعرفها جيدا، وهذه السوق ونرى ما فيها من سلع وخدمات واستقواء وغش ورداءة وإذعان. ولا حاجة بعد ذلك لكل ما توضحه وتقوله الأخبار والتقارير والمؤتمرات الصحفية!
ما تلقاه الأردن من منح وتبرعات قدمت لمنظمات المجتمع المدني أو مؤسسات خاصة تخدم المجتمع وأهدافه، تكفي لمضاعفة مساحة الغابات وتكرير المياه في كل البلدات وتطوير مصادر للطاقة تغطي جميع الناس وتحسن مستوى المعيشة والمدارس والمختبرات المدرسية والأندية والعيادات ومراكز الرعاية الاجتماعية، إلى المستوى الذي يخدم جميع المواطنين.. بل ويوفر لكل طالب "آيباد" وقيثارة!