من أجل مواطنة حقيقية

 

تثار بين فينة وأخرى مسألة المواطنة، وتطلق من أجل تحقيقها العديد من المبادرات والندوات، ولكن هذه المواطنة ما تزال غائبة لدى الكثيرين، وقلقة لدى الآخرين، ولم تنجح الجهات الرسمية في تخليق هذا الشعور أو توطين هذه المشاعر النبيلة بشكل مؤسسي، رغم أن كلفة ذلك لا تستحق أكثر من بعض قرارات جريئة وإجراءات شفافة.

اضافة اعلان

المشكلة فيما تم إطلاقه من مبادرات كان في تركيزها على فئة دون غيرها وإهمالها لفئات كان يجب استهدافها واجتذابها، لذا كان الحصاد هزيلا والنتاج محدودا بحجم المستهدفين. 

وحتى لا أُغرق في التشاؤم يمكن القول إن الخطط السابقة حققت جزءا متواضعا من هدفها، لكن ثمة إهمال مقصود (أو غير مقصود) لفكرة أساسية تسهم بشكل عميق ووثيق بتوليد شعور المواطنة.

الرضا المجتمعي يحقق الولاء وبتنامي هذا الشعور وتعاظمه يتحقق الانتماء، فالحقوق يقابلها واجبات بالتوازي، لكن المواطن يشعر بأن الحكومات مجرد جابٍ، تفرض الضرائب والمُكوس، ولا تقدم لمواطنيها ما يقابل ذلك، الأمر الذي يخلق حالة لاانتمائية لدى المواطنين، وتبقى المواطنة غائبة (وإن شئت مغيبة).

ومما غاب عن بال الكثيرين، دور وانعكاس نتائج السياسات الاقتصادية المطبقة في تحسين المستوى المعيشي على تبلور فكرة المواطنة، فالسنوات الماضية التي شهدت تطبيق العديد من الخطط الاقتصادية ونفذت خلالها برنامج الخصخصة، وسعت الفجوة بين السائل والمسؤول؛ حيث أهملت الجهات التنفيذية الآثار السلبية الاقتصادية والاجتماعية التي طالت شريحة كبيرة من الأردنيين، وكانت المواطنة من المتضررين من تلك السياسات أو من تطبيقها على نحو أدق.

فحالة عدم الرضا عما يجري، وشعور المواطن بالغربة عن كل ما يحدث حوله، ولدت شعورا لدى العديد بأنهم غير معنيين بما يحدث، حيث نرى ونسمع ونستشعر حالات عدم الرضا لدى كثيرين آمنوا بعد أن بخلت عليهم الخطط ببعض إيجابياتها، بأن ما يجري يصب في صالح ومصالح فئة محددة.

وهنا يجب النظر إلى حيثية في غاية الخطورة وبمجهر أكبر مما يُرى منه عادة، ألا وهي فض الاشتباك والاشتباه بين السياسي وصاحب المال، وان لا يتولى أحدهما ولاية الآخر، وهذا الأمر كفيل بخلق حالة المواطنة وشعور الولاء الحقيقي، وإلا فالمسألة غير ممكنة بل هي عصية في ظل حالة التقاطع الكبير بين أصحاب البزنس وواضعي السياسات.

فلطالما تسبب هذا الخلط الكبير بين الفريقين، بخلق حالة غير صحية، تم من خلالها تجيير القانون والتشريعات وحتى بعض المبادرات لصالح عدد قليل من المستفيدين.

ولذا، فإن النجاح في توليد شعور الطمأنينة عند القلقين على حياتهم والخائفين من شبح الحاجة والعوز أمر مستبعد في ظل ارتفاع معدلات الفقر والبطالة، فهؤلاء غير مؤهلين نفسيا وغير راضين عن أحوالهم حتى يتولد لديهم هذا الإحساس.

فالعاطل عن العمل لا يفكر بحضور ندوة فكرية عن أهمية المواطنة، والأم التي لا تجد ما تسد به رمق رضيعها لا تلجأ للكتب حتى تقرأ من دفتر الوطنية والانتماء، والشيخ الذي أصابه الزهايمر لا يمكنه أن يتذكر وطنا همش أبناءه وطواهم في النسيان من قبل.  

أما الفساد، ورغم الحديث المتكرر عن أهمية محاربته ومكافحته، إلا أن لسان حال الناس يقول إن غياب الإرادة الحكومية في محاربته أبقته في حالة انتشار واستشراء بحيث لم يعد يصلح معها العلاج، حيث أن جميع المبادرات التي أطلقت لهذه الغاية أخفقت في إقناع الناس بجدية الحكومات المتعاقبة في التخفيف من قناعاتهم.

فالإيمان المطلق والذي لا يتزحزح حول انتشار الفساد في المؤسسات العامة والخاصة وضعف قدرة الحكومات على محاربته أمر في غاية الخطورة، وتفكيك هذه الأفكار يحتاج إلى خطوات حقيقية تنزع هذه القناعة وتجعل البعض يؤمن بجدوى إطلاق العديد من الشعارات حول محاربة الفساد والمفسدين.

ومن غير المنطقي أن يكون ثمة تفكير بتوثيق علاقة الفرد بمجتمعه وخلق روابط قوية بينهما في ظل البحبوبة الاقتصادية التي يعيشها المسؤول والأزمة الاقتصادية التي يمر بها المواطن منذ سنوات، حيث يبقى موضوع المواطنة مجرد فكرة يطالب به المسؤول دون أي رد فعل من الناس.

خلق الشعور الحقيقي بالمواطنة مسألة ملحّة في هذه المرحلة الصعبة سياسيا واقتصاديا، في وقت نشهد فيه وضع مخططات مريبة حول مستقبل الأردن، فحماية منجزات الماضي والبناء عليها يحتاج إلى تعظيم المواطنة عند كل فرد، وليس مجرد شعارات تطلق هنا وهناك.