من حرب أكتوبر 73..!

مثل هذا اليوم قبل أربعين عاماً، السادس من تشرين الأول (أكتوبر) 1973، لم يكن عادياً بالنسبة للذين عايشوه. فجأة، قطعت الإذاعات برامجها وفاجأت الناس بما يشبه الحلم: جيوش مصر وسورية شرعت في حرب تحرير الأراضي العربية المحتلة. ومع البيانات العسكرية الأولى المنتصرة، حلّقت المعنويات واعتقد الناس بقرب تحقق المستحيل. وللأسف، لم يحدث المستحيل. ولا جدوى الآن من بحث طريقة إدارة تلك الحرب وما تمخضت عنه. لكنه لفتني فيها تفصيل منسيٌّ، نبهني إليه صديق.اضافة اعلان
كانت معجزة تلك الحرب، والتي أذهلت خبراء العالم العسكريين، هي نجاح الجيش المصري في عبور قناة السويس واجتياح "خط بارليف" الأسطوري. لكن الذي بقي في الظل إلى حد كبير، ولم أكن أعرفه أيضاً، هو الشخص الذي كان وراء الإنجاز العسكري: المنهدس المصري القبطي باقي زكي يوسف ياقوت، الذي غيّر الموازين العسكرية للحرب وغير نظريتها جذرياً، بفكرة.
حسب رواية ياقوت نفسه، فإنه عمل منتدباً من الجيش ليعمل في بناء السد العالي قبل أن يعود إلى الجيش بعد هزيمة 67 رئيساً لفرع المركبات في الجيش الثالث. وفي تجواله المستمر على ضفة القناة خلال أداء وظيفته، شاهد كيف يبني جيش العدو الصهيوني ساتراً ترابياً هائلاً على ضفة القناة الشرقية حتى يستحيل عبورها. وحسب قوله في مقابلة تلفزيونية، كان الساتر يرتفع يومياً حتى بلغ ارتفاعه أكثر من عشرين متراً بميل شبه عمودي، حوالي 80 درجة. ثم، ذات يوم في العام 69، جمع اللواء سعد زغلول ضباطه لدراسة الوضع العسكري، واستمع المهندس ياقوت الذي كان حاضراً إلى زملائه وهم يشرحون تكوين خط بارليف والساتر الترابي وما يمكن عمله إزاءه. وكانت تقديرات الخبراء العسكريين الروس تقول بأن تجاوز الساتر الترابي وتدميره مستحيل بالأسلحة التقليدية، وأنه يحتاج قنبلة ذرية، وأن خسائر الجيش المصري المتوقعة يمكن أن تصل إلى 20.000 جندي.
في لحظة، خطرت لياقوت فكرة، فرفع يده طالباً الإذن بالحديث. ولم يعتقد قائده بأن لديه ما يقوله في تلك المرحلة، وذكّره بأن عمله واقتراحاته، كقائد للمركبات، ستلزم في مرحلة لاحقة بعد هدم الساتر الترابي. لكن ياقوت قال: "حتكلم في الساتر الترابي". وبسط فكرته عن استخدام مضخات "ماصة كابسة" تُحمل على زوارق خفيفة، وتقصف الساتر الترابي بالمياه التي تسحبها من القنال، وشرح كيف أنهم استخدموا آلية مشابهة في بناء السد العالي. ولم يُهمل قائده اقتراحه، وإنما حمله إلى الضابط الأعلى فالأعلى حتى وصل إلى الرئيس جمال عبدالناصر نفسه. وفي كل مرة، كانوا يطلبون ياقوت ليبسط فكرته ويكتب تقاريره التي أصبحت تعامل كموضوع استراتيجي بالغ السرية. وجرى تجريب الفكرة عدة مرات، كانت آخرها في 27 كانون الثاني (يناير) 1972، على ساتر ترابي مشابه في جزيرة الملاح. والنتيجة: فتح 69 ثغرة في الساتر الترابي خلال ساعات من بدء حرب 73، واجتياحه بخسائر لم تزد على بضعة وستين جندياً.
عندما عرفت هذه التفاصيل عن تلك الحرب، خطر لي أن حيثياتها قامت على سؤال أساسيّ تمسّ حاجتنا إليه: "مَن عنده فكرة؟" وفي الحقيقة، لا تقتصر أهمية هذا السؤال وعمليته على مسائل الحرب، وإنما يصلح نهج عمل لأي شكل أو مستوى مؤسسي، من المشروعات الفردية والصغيرة إلى إدارة الدُّول. ففي التحصيل الأخير، لا بد أن يبدأ أي إنجاز بفكرة تدعم نفسها بمنطقها. ولكن، أين هو المسؤول الذي يستشير ويبادر إلى استدراج الأفكار؟
للمسألة علاقة بطبيعة العقل الاجتماعي السائد. وحسب ما نختبره في مناطقنا، فإن شكل العلاقات التراتبية لدينا يتخذ شكل السيل في اتجاه واحد. ليس هناك إيمان بجدوى التغذية الراجعة، وإنما إيمان بأحقيّة العقل "المسؤول" وعصمته وعدم حاجته إلى الاستشارة. ويبدأ هذا من الأسرة، فالمدرسة، فالجامعة، فعلاقات السلطات بالمواطنين. وهكذا، يتسبب الاستخفاف المسبق المتراكب في هدر عدد لا يحصى من الأفكار التي كان يُمكن أن تُحدث فرقاً لو طلبها أحد، أو بادر بعرضها أصحابها ولم تعامل بإهمال. ويتأمل المرء ما يمكن أن يَحدث لو طرح أحد، على المستوى الوطني، وبجدية، شعار: "مَن عنده فكرة؟"

[email protected]