من سد مأرب إلى جيش إدلب

تتفق الأدبيات الوطنية لمعظم الدول الناشئة في زمن ما بعد نهاية الحقبة الاستعمارية، على وصف جيش البلد الصاعد وئيداً على درجات سلم الاستقلال والحرية، تارة بأنه حامي الحمى، وطورا بأنه درع الوطن وسيفه، وذخره ومعقد رجائه في الملمات. غير أن أكثر الأوصاف المتداولة تعبيرا عن حالة الاعتزاز بالذات، وأشدها بلاغة في تعظيم شأن الجنود والضباط، هو وصف الجيش بالسد المنيع الذي لا تنزّ منه نقطة ماء.اضافة اعلان
وأحسب أن هذه المقارنة الرائجة في الخطاب الإعلامي لمثل هذه الدول، بمفرداتها المعبرة عن خاصيات الصلابة والمناعة المشتركة، وغيرها من العوامل المشتركة بين الجيوش الوطنية والسدود النهرية، مقارنة في محلها، صائبة وبليغة أكثر من أي تشخيص آخر أتى به دهاة الخطاب التعبوي. فليس هناك سند لإرادة أمة أعظم من مضاء جيشها أمام تهديد خارجي. وفي المقابل، ليس هناك خسارة فادحة في حياة الشعوب أشد هولاً من انهيار سد مائي لديها.
ويتجلى الشبه الشديد مرة أخرى، وينعقد التطابق الكلي بين الجيش والسد، ماضيا وحاضرا، في حقيقة أن التصدع الذي يسبق انهيار جسم المانع المائي لا يمكن ترقيعه، وإن كان من المحتمل إرجاء أجل انهياره الكارثي، تماماً على نحو ما يبدو عليه حال الجيش عند تقهقره في الحرب؛ حيث لا يمكن وقف هرولة الجنود إذا ما أداروا ظهورهم للعدو، لا ببث الأناشيد الحماسية، ولا حتى بإسنادهم بقوة نارية ثقيلة يجري إطلاقها من بعيد.
وكما يؤدي انهيار سد إلى سقوط دول وأفول حضارات، على نحو ما آلت إليه حضارة سبأ عقب انهيار سد مأرب على سبيل المثال، فإن هزيمة الجيش تفضي أحياناً إلى سقوط نظام الحكم، وفي أحيان أخرى إلى سقوط الدولة، على نحو ما تقصه علينا وقائع تاريخية قديمة قدم الإمبراطوريات العظيمة، وتؤكده لنا شواهد حديثة ما تزال عالقة في الذاكرة الغضة، لاسيما ما وقع منها مؤخرا في عصر الصورة والفضاءات المفتوحة.
ولو توقفنا فقط عند مشهد انهيار جيش نوري المالكي قبل أقل من عام واحد، لكان ذلك كافياً للبرهنة على حقيقة أنه عندما يسقط جيش في اختبار الحديد والنار، تتفكك الدولة وتمضي نحو مزيد من الفشل والانقسام، ولا يبقى من مظاهرها الكلاسيكية سوى العَلَم والنشيد والخراب العميم.
ويبدو أن ما حدث للجيش العراقي منذ نحو عام، يحدث الآن للجيش السوري منذ نحو شهر، حيث تتراءى لكل ذي عين بصيرة، أن التصدع الذي كان يواصل أخذ مداه الكامل، تدريجياً، في البنية العسكرية السورية، قد استكمل مطافه النهائي أخيراً، على نحو ما تجلى عنه الهروب الكبير من إدلب وجسر الشغور وسهل الغاب. وهو تقهقر مسجل بالصوت والصورة، لا يمكن التغطية عليه بسياسة الإنكار المعهودة، ولا المكابرة الممزوجة بمشاعر الصدمة الطافحة بالمرارة على ألسنة شبيحة الإعلام هنا وهنالك وهناك.
وتتجلى حالة البدايات والنهايات المتماثلة بين الجيوش والسدود، لاسيما على صعيد المآلات، أنه في الوقت الذي يستحيل فيه إعادة بناء السد في ذات المكان، وبالحجارة القديمة ذاتها، يستحيل بالقدر نفسه إعادة بناء جيش جديد من بقايا جيش مهزوم، تماما على نحو ما جرى بعد حرب العام 1967، حيث تم بناء جيوش عربية جديدة، بعقيدة قتالية جديدة، وضباط صف، وضباط جدد، وليس من خلال إعادة ترميم قوات ذاقت علقم الانكسار. وهو ما ظهر في الأداء العسكري اللاحق بعد ست سنوات.
وهكذا تبدو المقارنة التأملية، بين حالة التصدع في كتلة السد، وبين مدار التقهقر في بنية الجيش، وكأنها قراءة في صفحتين متقابلتين من كتاب تاريخي واحد، تقص كل واحدة منها، على انفراد، حكاية البناء والرهان والانهيار، لكائنين عظيمين من طينة واحدة، أو قل لبداية ونهاية متماثلة. فما إن تظهر الشقوق الصغيرة، تغدو النهاية الحتمية مجرد تحصيل حاصل ومسألة وقت فقط، على نحو ما تشير إليه الانهيارات المتلاحقة لجيش الأسد.