من شجعها على كل هذا القتل؟

حتى قبل أن تصبح إسرائيل حقيقة سياسية مؤلمة من حقائق هذه المنطقة، وتغدو دولة مدججة حتى الأسنان بكل عوامل القوة الحربية المتفوقة على محيطها العربي، ارتبطت نشأة هذا الكيان العنصري، منذ أن بدأ على شكل عصابات مسلحة في النصف الأول من القرن الماضي، بعقيدة ثلاثية الأضلاع، قوامها الاحتلال والإقصاء والإحلال. الأمر الذي طبع تاريخها الحديث بالعنف الدموي، وجعله مجرد سلسلة طويلة من التوسعات العدوانية، المترافقة مع جملة طويلة من المجازر المروعة.اضافة اعلان
لذلك، فقد يبدو التساؤل في العنوان أعلاه من قبيل لزوم ما لا يلزم، إن لم نقل إنه ينطوي، لأول وهلة، على قدر من السذاجة. فكيف يمكن للمرء أن يسأل: لماذا يسرق السارق، ويكذب الكاذب مثلاً، ما دام أن مثل هاتين الخصلتين الذميمتين متأصلتان في طباع من نتعجب من سلوكهم الشائن؟ فما بالك إذا كان من يقارف القتل، كابراً عن كابر، عدوا أشر، الحرف الأول من اسمه اسرائيل؛ ومع ذلك نسأل لماذا يقتل القاتل؟!
تغص الذاكرة الطرية بفيض لا نهاية له من الجرائم الوحشية المرتكبة على أيدي إسرائيل؛ أولها في دير ياسين العام 1948، وأشهرها في صبرا وشاتيلا العام 1982. إلا أن مجزرة غزة الأخيرة، بما اشتملت عليها من صور يصعب على الخيال تصورها، تبدو لنا أبشع مما ارتكبته دولة الاحتلال والاستيطان من مجازر طوال العقود الطويلة الماضية؛ سواء أكان ذلك بعدد الضحايا من الشهداء والجرحى الذي فاق كل ما سبقه من أرقام مدونة، أو كان لجهة حجم الدمار الذي تخطى المستوى القياسي له في ضاحية بيروت الجنوبية العام 2006.
من هنا تخلّق هذا السؤال في الذهن، وطفى على غيره من أسئلة هذا العدوان الإجرامي البشع، وهو: من أين استمدت إسرائيل كل هذه الجرأة على قتل الأطفال، من دون وازع أو خشية من مساءلة؟ وكيف تفوّق هؤلاء القتلة الراسخون في عالم الإجرام على أنفسهم، وتجاوزوا كل ما كانوا يضعونه من قيود على أيديهم في بعض الأحيان؟ ولماذا بدا لهم الأمر وكأن لديهم رخصة مفتوحة لإدارة حربهم على ظهور المدنيين الأبرياء بكل هذه الوحشية؟ وفوق ذلك، من شجع إسرائيل حقاً على كل هذا القتل العميم هذه المرة؟
وليس من شك في أن هناك الكثير من الإجابات عن مثل هذه التساؤلات الناضحة بالألم الموجع والمرارات؛ سواء بردّ الأمر إلى تكوين إسرائيل المتبتلة في محراب القوة العسكرية العمياء، أو إلى صمود المقاومة الأسطوري وقدرتها على جبه العدوان ببسالة في الميدان. غير أن هناك متغيراً آخر لا يمكن إسقاطه من الحسبان، أمدّ إسرائيل بكل هذا التفلت؛ نعني به استشراء مظاهر الغلو والتطرف في المنطقة كلها، وانتشار مشاهد المجازر المروعة من الماء إلى الماء، بما في ذلك الإعدامات الجماعية وقطف الرؤوس، والذبح على الهوية، وكل ما يخطر ولا يخطر على بال، في حمأة هذه الفتنة العربية الإسلامية العمياء.
لقد كانت إسرائيل مفعمة بحس التعالي، وهي تتابع على مدى السنوات الثلاث الماضية، أخبار وصور وقائع القتل والتقتيل بين العرب، قائلة في نفسها لنفسها، وأحيانا لنا بصورة مباشرة، إنها لم تبلغ في إجرامها ما بلغته الأنظمة الاستبدادية من استرخاص إلى هذا الحد لدماء مواطنيها، في العراق وسورية وليبيا على سبيل المثال؛ وإنها لم تستخدم السلاح الكيماوي وهي تمتلكه، ولم تستأنس لديها القدرة على تهجير ما تبقى من أعدائها الفلسطينيين من البلاد، وهي راغبة في ذلك، على نحو ما قامت به جماعات متطرفة ترتدي ثوب الإسلام.
وهكذا، ومن غير أن نقلل من جسامة الجريمة التي ارتكبتها إسرائيل على مدى نحو شهر في قطاع غزة، ولا أن نخفف من مسؤولية هؤلاء القتلة، فإننا نرى أن ما قارفه العرب، على اختلاف مشاربهم وطوائفهم، من فظائع بحق أنفسهم، كان أحد أهم العوامل التي شجعت الدولة التي تخوض في دمائنا حتى الركب، على مقارفة هذه المجزرة الرهيبة، بعد أن رأت بأم عينيها أنظمة عربية وجماعات إسلاموية، تخوض حتى أكتافها في بركة الدم ذاتها.