أفكار ومواقف

من قال إننا لا نعرف عن “الهولوكوست”..؟!

علاء الدين أبو زينة

الدكتور روبرت ساتلوف هو المدير التنفيذي لـ”معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى” منذ ثلاثين عاما. وتشمل مجالات خبرته، حسب التعريف”السياسة الأميركية، والدبلوماسية العامة، والسياسة العربية والإسلامية، والعلاقات العربية الإسرائيلية، والعلاقات الأميركية الإسرائيلية، وعملية السلام، والتحول الديمقراطي في الشرق الأوسط”.

بهذه الخبرة، ينبغي لساتلوف أن يعرف أفضل مما يقول ويكتب. ينبغي لأكاديمي وباحث وخبير في كل هذه الشؤون أن يُنتج خطابا متوازنا، مستندا إلى تراكم المعرفة. أما إذا احترف نزع الأشياء من سياقاتها وعرض نظرة أحادية وغير موضوعية، لأي سبب من الأسباب، فإنه يخاطر بأن يبدو غبيا جاهلا، متعصبا ولا علاقة له بالموضوعية. وليست هذه صفات أحد يستحق الاستماع إليه.

نشر موقع “معهد واشنطن” الإلكتروني مؤخرا مقالا لساتلوف بعنوان: ” لماذا يجب أن يتعرف العرب على “الهولوكوست”. وليس هناك مكان يمكن العثور فيه على مثل هذا الكم من التناقضات وأنصاف الحقائق والتضليل –خاصة وأن جمهوره المستهدف هو العرب، العرب الذين يقرأون.

من قال لساتلوف أن العرب الذين يقرأون لا يعرفون عن الهولوكوست، –وكل جانب منه. فنحن في الحقيقة مشتبكون معه ونفهمه في سياق ما يحدث في وطننا العربي منذ زرع الكيان الصهيوني الغريب في قلبه. ونعرف تماما كيف تُستخدم رواية الهولوكوست لتبرير عدوانية الصهيونية علينا وتخويف كل من يشكك في السرد السائد عنه أو يعارض سياسات الكيان المتذرعة به بتهمة “معاداة السامية” المرعبة.

نحن لا نخاف من تهمة “معاداة السامية” لدى عرض رؤيتنا لقصة الصهيونية واستعمار فلسطين –إلا إذا وصل بعض “العرب”، ولن يكون ذلك مستغربا- إلى حد ملاحقة المعارضين للكيان ورواياته. ولذلك يأمل ساتلوف والمتعاونون معه من جماعتنا الذين يذكرهم في مقاله، في تسهيل تطبيع الكيان بيننا على أساس تخليق تعاطف مع “الشعب اليهودي المضطهد” في أوروبا والتسامح مع ما يرتكبه من جرائم. وحبذا لو كان ذلك مقرونا بإلقاء ظل عميق على قصة الهولوكوست الفلسطيني على أيدي نفس “الشعب” المضطهد.

حسنا. لا يطالب ساتلوف –حتى تظاهرا بالموضوعية- بتدريس العرب عن المذابح ضد الهنود الحمر في أميركا؟ عن مذابح راوندا؟ عن مذابح أميركا في فيتنام؟ عن مذابح صبرا وشاتيلا؟ عن عشرات المجازر التي ارتكبتها العصابات اليهودية ضد الفلسطينيين قبل عام 1947؟ عن جهود الإبادة الجماعية والإعدام الجسدي والثقافي والتاريخي التي يمارسها الكيان كل دقيقة في حق الفلسطينيين منذ 1948 وما تزال مستمرة؟ مجازر هيروشيما ونغازاكي؟ مجازر الاستعمار في ليبيا، والجزائر، والكونغو، وأميركا اللاتينية، وآسيا وكل بقعة في الأرض؟ فلماذا “الهولوكوست” اليهودي وحده؟

يكتب ساتلوف: ” لماذا يجب على العرب أن يهتموا اليوم بالأحداث الفظيعة التي حدثت منذ زمن بعيد في مكان بعيد؟ إنه سؤال منطقي يطرحه الآباء والمعلمون أنفسهم في ضوء الإعلانات” عن نية دول عربية إدراج مناقشة “المحرقة”.. في مناهجها التعليمية.

“الإجابة على هذا السؤال بسيطة وعميقة في آن واحد”، كما يقول. “في رأيي، أن على العرب أن يتعرفوا على المحرقة التي أعدتها ألمانيا النازية لإبادة الشعب اليهودي وأدت إلى مقتل 6 ملايين من الأبرياء، بينهم 1.5 مليون طفل، لأن الدروس المستفادة منها تنطبق على جميع الشعوب”. هل يقبل ساتلوف بأن توضع “المحرقة” في سياق عرض علاقات المحارق المستمرة في حق الشعوب العربية على يد الصهيونية كنتيجة غير متوقعة لمذابح النازية؟ (رقم 6 ملايين ضحية مشكوك فيه جدا والكثير من عناصر رواية المحرقة المتداولة).

يكتب ساتلوف: “إذا كان بإمكان إحدى دول العالم الأكثر تقدماً وثقافة وتطوراً، بلاد بيتهوفن وغوته، ارتكاب إبادة جماعية واسعة النطاق، عندئد يمكن لأي مجتمع أن يفقد سيطرته ويستبدل القانون والأخلاق بالكراهية والعنف الطائش”. ولا يريد ساتلوف أن يلاحظ أن هذه العبارة، باستثناء موضوع بيتهوفن وغوته، تنطبق حرفيا على كيانه الصهيوني، صاحب الكراهية والعنف الطائش، والفصل العنصري.

ويكتب: “لم تحدث محرقة الهولوكوست بين عشية وضحاها. فما انتهى بجريمة قتل منظمة في “أوشفيتز” كان قد بدأ قبل أعوام من حدوثها عندما كان السياسيون والمحررون وقادة المجتمع المدني يحمّلون اليهود مسؤولية المشاكل الاقتصادية الخطيرة التي كانت تعاني منها ألمانيا. وأعقب ذلك القوانين التمييزية والطرد من المدارس ومصادرة الأملاك والترحيل إلى معسكرات العمل… سيل من الكراهية لم يحرك شعب ألمانيا الصالح ولا الشعوب الطيبة في الدول “المتحضرة” الأخرى للتدخل جماعياً في مرحلة ما والصراخ (بصوت واحد) “توقفوا”.

إنها بالضبط قصة الكيان الصهيوني التي بدأت قبل نصف عقد من استعمار فلسطين، وأنتجت القوانين التمييزية، ومصادرة الأملاك، والاعتقالات –بالإضافة إلى الجريمة الكبرى، الاستعمار. ولم يطالب ساتلوف الشعوب الطيبة “المتحضرة” للتدخل…إلخ.

ويكتب: “واعتبر النازيون أن السكوت علامة رضا فانتقلوا من التحيز، إلى الاضطهاد ثم إلى القتل… وهذا تذكير بضرورة رفع الصوت في وقت مبكر، في كل مرة تعالج فيها المجتمعات المشاكل الاجتماعية والاقتصادية الصعبة بالكراهية العنصرية أو الدينية أو العرقية. فالهولوكوست خير دليل على أن الانتظار قد يكون مميتاً”.

صحيح. نفس قصة الكيان والفلسطينيين التي لا بد أن ساتلوف يعمل من قلبه وعقله حتى لا يرتفع عنها صوت. هذه هي الرواية التي نحن معنيون بتعليمها لأجيالنا والتي أثرت على أقدارهم وتاريخهم –وللعالم. وثمة عرض ينبغي اقتراحه على لسيد ساتلوف: “درسوا في مدارس أميركا و”إسرائيل” عن التاريخ الحقيقي والموثق للمحرقة الصهيونية والكارثة الفلسطينية، وسوف ندرس القصة الحقيقية للهولوكوست النازي، بكل الروايات والشكوك حوله، وعلاقاته التاريخية بأزمة منطقتنا.

الدكتور ساتلوف واحد من الأكاديميين و”الخبراء” الكثيرين الذين لا يستحقون ألقابهم حين يقبلون بأن يعرضوا أنفسهم كجاهلين أو غير موضوعيين ويروجون لمعرفة فاسدة، ولعل المؤسف أكثر من ساتلوف الذي نعرف قضيته وخبث مساعيه، هو أنه يجد ما يعبئ به مقاله من الأفراد والجهات العربية الذين يساعدونه في نشر قصة الهولوكوست بشروط ساتلوف وغاياته وبالنسخة الصهيونية. لكَم يجسد هذا الخيانة الفظيعة للذات، والحقيقة، والأجيال العربية!

المقال السابق للكاتب

الذين يؤجرون الشوارع..!

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock